(1)
يهمل المرء منا في تدوين يومياته، وتوثيق ما يمر به، يشعر أنه ليس بشخصية عامة أو مشهورة يجب أن تفعل ذلك، لكن الحمد لله أن إحسان الترجمان لم يكن من أنصار هذا المنطق.
صحيح أنه مجرد جندي فلسطيني في عمر الواحد والعشرين، يشارك في الحرب العالمية الأولى مع قوات الجيش الرابع العثماني في القدس، ويعمل في أعمال إدارية في الجيش، لكنه سيترك لنا مذكرات زاخرة، تحكي لنا ما لم تحكه كتب التاريخ وبلغة الشارع لا باللغة الأكاديمية.
(2)
في ليالي خدمته العسكرية وعلى ضوء شمعة يسجِّل يومياته في كراس، ابتداء من الشهر الثالث لعام 1915 إلى الشهر الثامن من العام الذي يليه، ثم تمر السنون، وتستولي عصابات الهاغانا على القدس الشرقية عام 1948، وفي عام 1967 تتم احتلالها لكامل القدس، لتظهر مذكراته ضمن 12 ألف من المجلدات والمخطوطات العربية التي تم الاستيلاء عليها، ونقلت إلى الجامعة العبرية، ومعها لائحة بأسماء البيوت المنهوبة، ومنها منزل: “عادل بك الترجمان” الكائن بشارع المصرارة.
(3)
في أوراقه يحكي لنا أمورًا مختلفة مرَّ بها، من عام الجراد، الذي انتشر في أرجاء فلسطين مهددا المحاصيل، إلى زملائه الثلاثة المشنوقين على أبواب الخليل، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، إلى ثريا جارة القلب التي لا تفارقه.
يكتب عن طموحاته، وعن معاناة البسطاء والفقراء في بلدته؛ عن مظالم النساء في مجتمعه، وعن سوء الحال وتدهوره.
يكتب عن قرار قائد فيلقه الذي يبغضه، بأن يُحتفى بعيد جلوس السلطان محمد الخامس، ومن ثَم “يجب إطعام العساكر في ذلك النهار خروفًا وحلوًا، وأن تضاء المدينة وتتزين، وأن يُطعم الفقراء أيضًا، لكن لا يجب توزيع الأرز على العساكر؛ لأنه قليل”.
يعبِّر عن تذمره من هذا الإنفاق، في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار، يكتب: “لقد جاع أهل فلسطين، لكن ثمة سفينةً محملةً بالمؤونة قادمة من الولايات المتحدة إلى ميناء يافا؛ أرز وسكر وما شابه، لكن مهلًا، إنها من يهود أميركا إلى يهود فلسطين”.
مِن هنا يحكي لنا عن “الصهيونية الناشئة”.
(4)
في كراسه يكتب عن حفلات القادة بين الفينة والأخرى، ويشتكي من سُكْر بعضهم، ويتساءل عن ظهورهم بمظهر ديني، وهم في حياتهم الخاصة غير متدينين!
يكتب عن استمرار الغلاء والضيق، وتوالي هزائم العثمانيين.
يتساءل: هل ستسقط فلسطين في يد الحلفاء؟
ثم يحدثنا بعدها عن تفشِّي الجُدَري في المدينة القديمة، وموت شابة مقدسية في عقدها الثالث.
يكتب معربًا عن خوفه من عبور الإنجليز مضيق الدردنيل، وسقوط إسطنبول، وانهيار الدولة العثمانية.
يكتب أنه لا يريد الموت؛ “أرى الحياة لذيذة وحلوة، نعم أنا لست مرتاحًا من حالتي الحاضرة، ولكن المستقبل يبشِّرني”.
(5)
يسجِّل دهشته “مَن كان يتصور أن ينفد الطحين في بيتٍ بفلسطين وهي مصدِّرة له؟، حتى القمح قد شحَّ، لقد انهار كل شيء، حتى جيش جمال باشا الذي تقهقر إلى حلب”.
لقد ضاقت الأرض بهذا الشاب الصغير، حتى بلغ به الضغط النفسي حافة الانتحار “كم فكَّرت في هذه الفترة أن أنتحر؛ لأتخلص من هذه الورطة، ولكنَّ شيئًا واحدًا كان يردعني عن هذا العمل، وهو لأني لا أحب أن أنكِّد عيشة مَن يحبني، فيعود لي صوابي وأقول: لا بد أن تنتهي هذه الحرب، ويرجع كل منَّا إلى حيث يريد، ولكن متى يكون ذلك؟!”
يسمع بالثورة العربية بقيادة الشريف حسين، فيتعاطف معها كثيرًا، مع كونه جنديًّا عثمانيًّا.
ولكنها رغبته النافذة في الخلاص، وكل شيء يحمل له هذا الأمل فهو معه؛ فلقد كان ساخطًا على الإدارة العثمانية بسبب قسوتها في الحرب، لينهي الكراسة بعبارة مليئة بالدراما: “لقد تحقَّقت أمنيتي القلبية بهزيمة الأتراك، ليست سوى أيام قلائل حتى يغادروا القدس دون رجعة، ستعود حياتي كما كانت قبل الحرب، سوف أعود إلى كتبي، وأتزوج من حبيبتي ثريا التي فرَّقتني عنها طلقات المدافع”
(6)
لكن شيئًا من هذا لم يحدث، فلم تعد فلسطين، ولم يعد إحسان، بل قُتِل في القدس قبل دخول قوات اللنبي إليها، ليرثيه أستاذه خليل السكاكيني في مذكراته الخاصة: “أترحَّم على المرحوم المأسوف عليه إحسان، الذي لا يبرح من مخيلتي”.
لم يُحقَّق في قتله؛ لأن الزمن زمن حرب، والإنجليز على أعتاب القدس.
لقد قُتِل بعد معاناة نفسية، حتى اضطربت هويته، فتارة يحب العثمانيين، وتارة يكرههم، وتارة يرثي شعبه الفلسطيني، وتارة ينقم عليهم قبولهم بالهوان.
رحم الله إحسان، ورحم تعالى كل من يعيش التاريخ ويسجله، مهما كان موقعه في الحياة.