(1)
كانت الحرب على أشدِّها، والطرق مقطوعة، وليس أمامي إلا أن أقضي يومًا في مسارات التفافية، أمر خلالها بنقاط تفتيش عديدة، وبموانع متعددة، حتى أصل إلى منطقة محدَّدة، حيث المواجهة العسكرية محتدَّة عندها؛ لأتمكن من إعداد تقريري التلفزيوني.
غير أن ما رأيته في الطريق حسبته أكثر أهمية مما تضمنه تقريري عن الوضع في المنطقة التي استهدفناها.
(2)
كانت تجربتي الأولى كمراسل حربي، ولا أعرف هل كان ذلك من سوء حظي أم من حُسنه أن يكون ذلك في البوسنة والهرسك بين عامي 1992 و1995.
في رحلتنا الطويلة، أتوقَّف وفريقي في مناطق عدة؛ طلبًا للراحة، أو للتأكُّد من صحَّة مسارنا، ولأن صديقي المترجم لديه قدرة غير عادية على فتح الحوارات مع الناس، فإنه كان ينقل لي حكاياتهم.
أناس بسطاء، لكن حكاياتهم ليست أبدا بسيطة.
نصل إلى هدفنا، نعدُّ تقريرنا الإخباري الكلاسيكي، عن القتلى والجرحى، نستشهد بتصريحات الضباط والجنود، ثم نعود أدراجنا.
في طريق العودة أسأل نفسي: أيهما أجدر بالسرد، الموقف العسكري، وتصريحات الساسة، أم حكايات الناس؟
ولأنني لم أرغب وقتها في المشاغبة، والتمرد على قرارات إدارة التحرير، فإني تجاهلت الحكايات، وغرقت في الأخبار، ومن حين لآخر أقتنص حكاية هنا وحكاية هناك، والمفاجأة أن من كنت ألقاهم كان يحكون تفاصيل حكاياتي، وليس تفاصيل تقاريري الإخبارية.
(3)
هل الحكايات قادرة على شرح الموقف السياسي والعسكري؟
نعم، إذا سُردت بذكاء شديد.
كل عناصر الحرب حاضرة في حكايات البسطاء.
إذا أردت أن تفهم التاريخ والجغرافيا وما كان وما يجري، فإن في حكايات الناس إجابات واضحة.
أسألك: أيهما أكثر تأثيرًا على الناس، أن تقول: إن غزَّة فقدت 15 ألف طفل، أم تحكي حكاية هند، الطفلة التي استغاثت بالعالم كله، وعاشت بين جثث القتلى حتى قُتلت؟
بالتأكيد الأمران مطلوبان.
ليس لمراسل الحرب أن يتجاهل الأخبار؛ فهذه وظيفته الرئيسية، هذه حقيقة، ولكن الحقيقة الغائبة أن حكايات الناس أكثر أهمية على الأقل في نظري.
الطرفان في حاجة لهذه الحكايات.
الناس أبطال الحكاية، والناس الذين يشاهدون الأخبار!
هؤلاء يرغبون في أن يصرخوا بحكاياتهم ليسمعهم العالم كله لعله ينقذهم.
والآخرين يرغبون في معرفة تفاصيل الحياة اليومية للذين يعيشون الحرب، يتوقون لحكايات ناس تشبههم، تصف لهم الواقع، بعيدًا عن هؤلاء القادة وأرباب الحكم بتصريحاتهم الجوفاء.
أمسِك أي مراسل حرب بعد أن تنتهي مهمته واسأله: ماذا رأى؟ سيحكي لك حكايات لا تصدَّق.
لا تستهن بالحكاية.
تخيل أن الذي خلق السماوات والأرض بأعاجيبها أنزل كتابًا خاتمًا إلى البشر، شاء عز وجل أن يُضمِّن ثلثه حكايات، سبحانه وتعالى.
الحكايات أشبه بالسحْر، تزوِّدك بالمعلومة، وتثير حماسك، وقد تدفعك إلى فعلٍ ما.
أحداث الحرب المتوالية لا تسمح لك برفاهية سرد القصص.
نعم أعرف، ولكني هنا أسجل رأيي.
امنحوا حكايات الناس مساحة تستحقها.
(4)
في الحرب -أي حرب- الحكايات على قارعة الطريق، تبحث عمن يلتقطها، ويُحسن سردها، ويُخبر بها العالم.
أولاد العم غسلوا أدمغة العالم بحكايات المحرقة، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو غير ذلك، ومنها ما تمت المبالغة فيها.
أسألك كم شخصًا قرأ كتبًا عن المحرقة؟ وكم من شخص شاهد أفلامها الوثائقية والدرامية، وتأثَّر بها، وتفاعل معها؟
لو الأمر بيدي، لجمعت كل المراسلين والمراسلات الأبطال، بعد أن تنتهي الحرب في غزة، ، هؤلاء الذين يعملون ليل نهار، ولقلت لهم: لن تخرجوا من هنا حتى تُفرغوا كل ما لديكم من حكايات.
لو الأمر بيدي لطلبت من الروائيين وصناع السينما أن يتفرغوا لتوثيق ما جرى، في أعمالٍ وثائقية ودرامية؛ فالأخبار تُنسى، وتلك الأعمال يَحتفظ الناس بها في مكتباتهم، تأريخًا لجرائم حربٍ كانت تُبث على الهواء مباشرة، وكان الساسة الغربيون يُنكرونها.
(5)
المشكلة ليست أن عدونا أكثر منا قوة، بل هو أكثر ذكاء، يستحدث أدواته التي يُغِير بها علينا، بينما نحن مستمسكون بوسائلنا التقليدية.
أرجوك، لا تنظر للأمر على أنه لا يَعنيك؛ لأنك لا تمتهن هذه المهن.
الراغب في العمل سيجد مدخلاً له بلا شك.
احفظ القصص التي تُروى، احفظها لنفسك، واحفظها لأولادك.
لا يعدِم المخلص طريقة لأن يدافع بها عن الحق وينصر المظلومين.
صدقني “الحكاية” واحدة من أقوى الأسلحة.