(1)
الرجل نصفه بورمي ونصفه هندي، وما إن تشن اليابان هجومها على بورما عام 1942 حتى يهرب إلى الهند؛ ليواصل تعليمه هناك، ومن ثم يهاجر إلى بريطانيا ويستقر بها -تحديدًا في ويلز- طبيبًا للعظام، يتزوج من ممرضة تنجب له صبيًّا جميلاً اسمه: ديفيد مالكوم نوت، سيكون هو صاحب حكايتنا.
(2)
يكبر الطفل وهو يسمع ذكريات والده عن الحرب، يدرك أنها أقبح ما على الأرض، تمر السنون ويتخرج طبيبًا عام 1981، ويصادف بعد مرور ثلاث سنوات أن يذهب مع والده لمشاهدة فيلم: “ساحات القتل”، الذي يحكي ما جرى في كمبوديا على يد الخمير الحمر، حيث قتل وسجن وعذب حوالي ثلاثة ملايين.
غير أن بعض الأفلام لا تنتهي بانتهاء العرض، وهذا ما حدث مع ديفيد، الذي شده بشدة مشهد الطبيب الذي يعمل على إنقاذ المصابين، فيعاود الذهاب إلى السينما في اليوم التالي لمشاهدة الفيلم من جديد، ولتلمع في رأسه الفكرة: سأكون جراح حرب، وأنذر حياتي لذلك، وسأتخصص في جراحة الأوعية الدموية، أكثر ما تحتاجه الحرب.
(3)
في عام 1993، تثيره مشاهد العدوان الصربي على أهل البوسنة والهرسك، فيقرر طلب عطلة غير مدفوعة الأجر، ويحمل حقيبته ويذهب إلى سراييفو؛ ليخوض تجربته المؤلمة في العاصمة البوسنية، مستشفيات تعاني قلة العاملين، وندرة المواد الطبية، ومصابون يأتون على شكل موجات، ليعود بعدها -إلى بريطانيا- شخصًا مختلفًا غير الذي ذهب.
واصل ديفيد متابعة أخبار الحروب، والأوضاع الصحية في مناطقها، وراح كل حين يفرد خريطة العالم أمامه؛ ليحدد وجهته السنوية، جراحًا متطوعًا، يرتب مواعيد عياداته، وعملياته الخاصة والتزاماته المختلفة ليتحصل على عطلة بدون أجر؛ لينقذ الضحايا بدون أجر، لا يعنيه معتقد الضحايا ولا ألوانهم السياسية والطائفية، فهو معني فقط بإنقاذ أرواحهم.
وعلى مدى عشرين عامًا، يسافر في سبع وعشرين مهمة بمناطق مستعرة: سيراليون، وساحل العاج، والكونغو، وتشاد، وليبيريا، وأفغانستان، والعراق وغيرها، وفي كل بلد له حكايات وحكايات.
(4)
في صيف عام 2012 يصل إلى إسطنبول، ومنها إلى الريحانية.
تعبر سيارته الحدود السورية، تتوقف في نقطة متفق عليها، لتأتي سيارة أخرى تقله إلى “أطمة”، ليبدأ في خوض عملياته الجراحية.
تصل إلى المستشفى سيدة محمولة على النقَّالة، انفجرت في مطبخها قنبلة بدائية، صنعها زوجها، قتل هو، ودمر البيت، وأصيبت هي أسفل الساق اليسرى.
تعاني السيدة من نزيف حاد، مع مساعده السوري يباشر هو عمليته الجراحية لإنقاذها بعمل شق تحت العصابة في أعلى الساق؛ حتى يتمكن من سد الوريد بإحكام، قبل استكشاف الجرح، بعدها يضع إصبعه ببطء وبحذر في داخل الجرح، يلاحظ وينتبه إلى أنه لم يتحسس معدنًا مسننًا، أو شظية كما هو المعتاد، وإنما يجد جسمًا أسطوانيًّا ناعمًا فيجذبه نوت للخارج، ممعنًا النظر فيه عن كثب.
يصرخ مساعده إنه مفجر ويركض خارج الغرفة، ويتراجع طبيب التخدير وقد تملكه الرعب، وينزوي خلف الخزانة في زاوية الغرفة.
سرعان ما يعود مساعده السوري، حاملاً دلو ماء في حذر، يضعه على الأرض، وينسحب بهدوء، بينما يغمر صاحبنا يده بحذر في الماء، إلى أن يلمس قاع الدلو، ليترك المفجر داخله، ثم يحمل الدلو إلى الخارج، لينتهي مشهد افتتاح تجربته في سوريا.
(5)
يعود ديفيد إلى بريطانيا، بعد أن عالج مصابين، ودرَّب جراحين.
وفي عام 2013 يعاود التجربة، هذه المرة إلى حلب، يندهش من صمت العالم إزاء الوحشية المفرطة التي يتعرض لها الأبرياء، معظم الإصابات من الأطفال الذين يحتمون مع أهاليهم في بيوتهم، ولا ترحمهم البراميل المتفجرة، حتى بلغت نسبة الوفاة بين المصابين ثمانين بالمائة.
يسجل في أوراقه: “إنه من الواضحِ أن القناصة، يمارسون لُعبة ما، فمثلاً في أحد الأيام، نجد عندنا مرضى يعانون جميعهم من جروح في الفخذ، وفي يوم آخر تكون الإصابات في الصدر -أو في المعدة- فقط، ثم في اليوم التالي نجد أن ضحايا القناصة نساء حوامل اقترب موعد ولادتهن، كان بإمكاننا انطلاقًا من حالة المريض الأول الذي نستقبله صباحًا، أن نقول ما سنرى خلال بقية النهار تقريبًا، وقد علمت أن الأمر بمنزلة لعبة، يتراهن فيها القناصة على إصابة مناطق معينة من أجساد ضحاياهم، سمعنا أنهم يتراهنون على علب سجائر!
(6)
يعود بعد ستة أسابيع من حلب، يتحدث لصحيفة عن خطر تجربته في سوريا: “ليس خطرًا واحدًا، بل أخطار، خطر القتل. والأسوأُ منه هو الاختطاف، والتعذيب، وقطع الرأس، سوريا مختلفة عن الحروب الأخرى التي شهدتها، البلاد مَقبرة كبيرة للأطفال، لكن لو يرى الناس ما رأيته سيدركون أهمية المخاطرة وجدواها”.
لكن ثمة حدثًا شخصيًّا سعيدًا، ما إن يبلغ عام 2015 ثمانية وخمسين عامًا، حتى يتخذ قراره المؤجَّل بالزواج، بعد أن ظل مصرًّا أن يكون وحيدًا بعد وفاة والديه؛ لعله يمنح عمره للمرضى ومصابي الجروح، وحتى لا يشعر بالذنب تجاه عائلته، عندما يضع نفسه في خطر.
ينشئ مع زوجته مؤسسة خيرية، يعمل على تدريب طواقم طبية تعمل في الحرب، ويواصل رحلاته الإنسانية.
(7)
تذكرت حكاية ديفيد نوت وأنا أتابع محاولات بعض الأطباء العرب التسلل إلى غزة المحاصرة، يبدو أننا نحتاج يومًا أن نوثق حكايات الأطباء الفلسطينيين ونظرائهم العرب في هذه الملحمة التي ستنتهي بإذن الله بانتصار مؤكد.