(1)
وصلتُ إلى النفق الذي سيعبُر بي إلى الناحية الأخرى حيث سراييفو المحاصرة، أدخلوني وفريقي إلى مكان ضيِّق عند المدخل يَحتشد فيه رجال كثر، سقف منخفض للغاية، وإضاءة معتمة، وأكسجين نادر، وقنبلة واحدة -تسقط مخترقة هذا السقف الهش- كفيلة بالقضاء على الجميع دون إصابات!
لاحقًا، وفي الظلام بدأنا مسيرتنا في النفق وراء صف من الرجال بانحناء شديد إلى حد الركوع؛ تفاديًا للاصطدام بالسقف، ثم رويدًا رويدًا أكتشف أن كلَّ واحد منهم يحمل في يديه عبوتين من الوقود، وسيجارة مشتعلة تتدلى من فمه، سقوط واحدة منها كفيلة بإشعال حريق في النفق كله ومن يمرُّ به، يا لها من نهاية مأساوية تنتظرني، نجوت وسرعان ما تحول غضبي إلى ضحك على هؤلاء المدمنين المجانين!
(2)
تذكرت الواقعة وأنا أقرأ تصريحات جنرال روسي يشكِّك في جدوى القصف الإسرائيلي على غزة، يفيد بأنهم جرَّبوا ذلك من قبل، في أفغانستان وفي سوريا، إذ يخرج المقاتلون من الأنفاق بعد القصف سالمين؛ ليواصلوا القتال ضد عدوهم.
ما لم يذكره الجنرال الروسي أو قل: ما لم يستفد به من تجارب السابقين، أن أنفاق فيتنام كانت سببًا مباشرًا في هزيمة فرنسا، ثم هزيمة الجيش الأمريكي بقوامه الذي بلغ 520 ألف مقاتل عام 1976.
النفق هو سر النصر.
وهي أنواع، هناك ما حُفر لتجاوز سور يَفصل بين شعب واحد كما حدث في برلين، في زمن الشيوعية، فكان النفق مخرجًا سريًّا بين برلين الشرقية السوفياتية وبين برلين الغربية.
وهناك الأنفاق التي تُحفر للهروب من السجن، كما فعل ستة أسرى فلسطينيين هربًا من سجن (جلبوع) قرب مدينة بيسان الواقعة شمال فلسطين عام 2021.
أو تلك التي تُحفر لنجدة المدن المحاصرة كـنفق سراييفو، ونفق ستالينغراد الذي شُق خلال الحرب العالمية الثانية تحت تلك المدينة السوفياتية المحاصرة من القوات الألمانية.
(3)
لكن أقول متحيزًا: أنفاق غزة “غير”!
لقد صُممت بشكل يُشبه بيت العنكبوت، أي أن لها عدة مداخل ومخارج، ويستحيل إغلاق النفق منها بإغلاق منفذ واحد، يُقدَّر عمقها بحوالي 80 مترًا، وطولها بحوالي 500 كم، تحوي فتحات مؤدية إلى البحر، بشكل يقف ماء البحر عند منطقة معينة حتى لا يغمرها.
خرائط الأنفاق سرية جدًّا بلا شك، لكن المقاومة سرَّبت منها عدة نسخ مزيفة إلى المخابرات الإسرائيلية، التي باتت لا تعلم أيًّا منها صحيحًا.
مِن هذه الأنفاق يخرج الأبطال الآن ليواجهوا عدوهم، بالأحرى عدونا، من المسافة صفر، في بطولات كنَّا نسمع عنها في التاريخ ونكاد لا نصدِّقها، ليحققوا انتصارات لافتة، وليصبح للصفر قيمة.
(4)
اعتدتُ ألا تقع واقعة إلا وأحاول الاستفادة من دروسها، لذا أجدني أسأل نفسي:
ما جدوى أن يحفر المرء لنفسه نفقًا خاصًّا به؟
بالتأكيد نفق معنوي وليس ماديًّا.
في العموم تُشق الأنفاق للتحايل على خطر قوة معاكسة ضخمة، ألا يحتاج المرء منَّا إلى نفق حين يواجه في حياته ظروفًا صعبة وتحديات قوية، يعتقد أن مواجهتها المباشرة لن تجدي نفعًا؟
أن تشق نفقًا لك يعني أن تسلك مسارًا في الحياة غير مُعلَن، لا يعرفه لا الخصوم ولا الأصدقاء، تخبئ فيه أسرارك وحاجاتك.
مسار متعرِّج لهدف مستقيم.
طريق تسير فيه وحدك لا يراك فيه أحد، تستعد فيه لمهمة كبرى، يحرِّرك من المسارات التقليدية التي اعتدتَ عليها واعتاد عليها الآخرون.
يمنحك الظلام فيه الفرصة لرؤية ما في عقلك وخيالك، كأنه الأشعة البنفسجية.
بل هو فرصة للعثور على الضوء داخل أنفسنا.
نفق لا تداوم الحياة فيه، فهو ليس عزلة، وهو ليس مكانًا للاختباء؛ إنما فرصة للعثور على القوة والمرونة.
الأمر ليس سهلاً.
إنك في حاجة إلى تخطيط دقيق، وعمل متواصل على مدى زمن طويل، وقُدرة على التغلُّب على عقبات الطريق، واستعداد دائم لتقبُّل فكرة التعثر، ومن ثم تكرار المحاولة من جديد، حتى تنتصر في النهاية على تحدياتك.
في النفق الذي تحفره بنفسك سوف تختبر كل أفكارك، فعند كل عقبة، ستعاود التفكير فيها، وسوف تتنازل بسهولة عن أضعفها، ستغيرها، تستبدلها بما هو أفضل.
لا تنكسر عند ما لا تتمكن من رؤية النهاية؛ ذلك لأنك تؤمن أنها قاب قوسين أو أدنى، ربما هناك عند هذا المنحنى أو بعده.
سوف تتعلم أهمية المثابرة وعدم الاستسلام، حتى في أحلك الأوقات.
قد يكون النفق ضيقًا، لكن وسِّع رؤيتك ستكتشف أن إمكانياتك تتجاوزه.
(5)
ثم ذات مرة وفي الوقت الذي يناسبك أخرج إلى العلن
اختر المخرج الذي يلائمك، فالنفق الذي سلكته جعلته متعدد المخارج؛ حتى لا يَسدَّ أحدهم عليك مخرجه الوحيد.
الآن ترى النور وتنال الحرية
وتستمتع بشخصك الجديد الذي أصبحت عليه.
قلت لك:
النفق سر النصر.