(1)
“أوراق شمعون المصري”.
رواية يسرد أسامة الشاذلي فيها حكاية بني إسرائيل وخروجهم من مصر.
كنتُ قد نحَّيتها جانبًا بعد أن مللت من صفحاتها الأولى، لكني مع حرب غزَّة قررت العودة إليها، اندمجتُ جدًّا في القراءة إلى أن وصلت إلى ما ورد فيها من أن:
“كل المخلوقات مسخَّرة لأمره إلا أنت، إن شئتَ آمنتَ به، وإن شئتَ أنكرتَه، لن يمنع نعيمه عنك إن جحدته، ولا يضمن لك نعيم الدنيا إن آمنت به؛ فالجزاء كله مؤجَّل للآخرة، وهذا أصعب ما في الأمر، فلو كان السفر قريبًا لعلمنا مقصده، ولكن بعُدت علينا الرحلة وطمست عنَّا نهايتها”.
(2)
“إن شئتَ آمنتَ به، وإن شئتَ أنكرتَه”.
إنها نعمة “الاختيار” التي يتمتع بها الإنسان وحده دون سائر المخلوقات، أو على حدِّ وصف علي عزت بيغوفيتش في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب): فإن “القدرة على الاختيار، هي أعلى شكل من أشكال الوجود الممكن في هذا الكون”.
لكن يبدو أن حق الاختيار أو نعمة الاختيار -سمِّها ما شئت- هي ضريبة الحرية.
أنت غير حر فلا اختيار لك.
أنت حر فعليك أن تختار.
ويفسِّر مصطفى محمود ذلك الأمر في كتابه (يوميات نص الليل):
“لو إرادته اقتصرت على توجيه الإنسان إلى النافع لما كان بذلك حرًّا، ولأصبحتْ حياته ذات وجهة واحدة وطريق واحد لا اختيار فيه”.
“إن شئتَ آمنتَ به، وإن شئتَ أنكرتَه”.
يمنحك الاختيار حق أن تؤمن بوجود الخالق أو تنكر.
غير أن الكارثة تكمن في أنك سوف تتحمل نتيجة اختيارك، وهو أمر مقبول في أي شأن دنيوي، اخترت دراسةً ما أو مهنةً ما أو بلدًا ما لتعيش فيه، ثم ثبت خطؤك، فيمكنك إعادة المحاولة مع تحمُّل الأضرار التي وقعتْ من خسارة وقتٍ ومالٍ، ومع الوضع في الاعتبار أن هناك مكاسبَ تحقَّقت من تجربةٍ وخبرات.
غير أن ذلك غير متحقِّق في شأن الرب -جلَّ وعلا؛ فهي حياة واحدة، ومن ثَم مصير واحد.
لذلك فإن “الاختيار” هو أصعب مهمة يتحمَّلها الإنسان في الحياة.
(3)
الاختيار يحتاج حكمة.
والحكمة تحتاج بوصلة.
والبوصلة تحتاج أن تحدِّد بداية هدفك الذي تسعى إليه بنهاية حياتك؛ لتضبط بوصلتك في اتجاهه.
هذه البوصلة ستلجأ إليها كلَّما وجدت نفسك في مفترق طرق، سواء لشأن دنيوي أو شأن ديني.
فإذا واجهت -مثلاً- موقفًا كانت كل الخيارات المتاحة فيه سيئة فإن البوصلة ستخبرك عن أقلها سوءًا، فأنت في الدنيا تناور بين التحديات؛ لتخرج فائزًا، فإذا انتظرت حالاً مثاليًّا خسرت كل شيء.
وإذا حدَّثتك نفسك أن تلزم الصمت والسكون فيما هناك أناس يُقتلون وتُهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، ستخبرك البوصلة أنك بذلك إنما عصيت الرب.
إنها معادلة معقَّدة جدًّا.
أنت حر، إذن فاختر، إذن فتحمَّل النتائج.
(4)
الاختيار يحتاج شجاعة.
خذ عندك… هؤلاء الذين اختاروا أن يتحولوا عن دينهم، ألا يحتاج الأمر إلى شجاعة فائقة لمواجهة الأهل والأقرباء والأصدقاء، وتحمُّل سخريتهم، وربما عقابهم؟
لكن في المقابل فإنَّ إيمانهم بحُسن اختيارهم يمنحهم قوةً قادرةً على المواجهة.
وبالمناسبة فنحن -أيضًا- اخترنا الإيمان التقليدي، أو قل: ورثنا الإسلام، ولم نختره.
ولذلك نحن نندهش مِن هؤلاء الذين اختاروا التحوُّل عن دينهم إلى ديننا، كيف يتذوَّقون ما لا نتذوَّقه؟! كيف دخلوا إليه من زوايا مختلفة؟!
أسمع سيدة مصرية تقول: إنها تؤدي العبادات منذ صغرها، تصلي وتصوم، لكن ما يذهلها هو تذوق غير الناطقين بلغة القرآن لآياته، تتساءل: كيف يشعرون بما لم نشعر نحن به؟ كيف دخلوا إلى الدين من زوايا لم تُثر اهتمامنا؟
تقول: إنها فكَّرت كثيرًا، ثم لجأت إلى حيلة، وهي أن تعاود قراءة القرآن، ولكن عبر قراءة معانيه بالإنجليزية، على أمل أن تُدرك ما أدركه المسلمون الجدد.
هل تعلم لماذا؟
إنها العادة التي تُفقد المعاني -أحيانًا- قوَّتها، وتنزع عنها لذتها، التكرار بدون فهم ولا تدبر، أن تؤدي الطاعات فيما القلب غائبًا.
لقد لُقِّنتَ الدين تلقينًا، لكنك لم تُجدِّد إيمانك، تعاملت معه كموروث، تحافظ عليه، لكن لا تعتبره اختيارك أنت الشخصي.
لذلك نحن نعود الآن إلى نفس الآيات التي قرأناها مرارًا وتكرارًا؛ لنكتشف فهمًا جديدًا وأبعادًا أخرى.
غريبٌ أنَّ أمر تجديد الدين هو أمر الله -تعالى- للمؤمنين أصلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾
إن الآية تطلب من المؤمنين أن يؤمنوا، أي يجدِّدوا إيمانهم والله أعلم.
فيما يخص الأحلام فإني شخصيًّا اخترت عالمًا جديدًا أحدثته غزَّة، يَدخل الناس فيه إلى الإسلام، ويُجدِّد المؤمنون فيه إيمانهم.