(1)
تجمع الأقدار المتشابهَيْن -أحيانًا؛ لينسجا حكايتهما الخاصة.
هي يهودية من طبقة متوسطة، يسارية الهوى، تعيش في ألمانيا، تعتقلها السلطات ثم تُفرج عنها، تعيش ألمانيا أزمة اقتصادية طاحنة، تشهد صعود نجم هتلر، تقرر هي الهجرة إلى فرنسا.
هو مثلها، يهودي، يعيش في بودابست، تسجنه السلطات ثم تُفرج عنه، يقرر الهجرة إلى ألمانيا؛ ليدرس فيها العلوم السياسية، فلما لم تساعده إمكاناته المالية، قرر العمل بالصحافة، فلما لم يستطع -بسبب اللغة- قرر العمل بالتصوير، باعتباره أقرب مجال إلى الصحافة، فلما علا نجم هتلر، قرر هو الآخر السفر إلى فرنسا.
(2)
يقضي صاحبنا -ويُدعى روبرت كابا- شهره الأول في باريس وهو يصارع الفقر والجوع، حتى يلتقي صديقًا يخبره أن شركة تأمين -سويسرية في باريس- ترغب في التعاقد مع مصور يلتقط صورة لفتاة بمواصفات جمالية معينة؛ لتكون الملصق الترويجي للشركة في شوارع باريس.
يَخرج الفتى هائمًا في شوارع العاصمة الفرنسية بحثًا عن فتاة تطابق تلك المواصفات، يجلس في مقهى، يتأمل المارات، تخطف بصره فتاة بالمواصفات المطلوبة، يتقدم نحوها، يعرض عليها الصفقة.
تتفحص الفتاة هيئة روبرت المزرية، وحذاءه القديم، يساورها الشك فيما يقول، تتردد في قبول دعوته، لكنها لا تستطيع الرفض؛ فهي وصديقة لها يسكنان معًا، يعانيان -أيضًا- من الفقر والجوع بسبب صعوبة الحصول على عمل في باريس.
(3)
في الموعد المحدد، تأتي الفتاة وبصحبتها صديقتها في السكن، صديقتها هي بطلة حكايتنا، تلك الفتاة التي هاجرت من ألمانيا إلى فرنسا وتدعى جيردا تارو.
يبدأ صاحبنا في التقاط الصور للفتاة المطلوبة، تراقبه صاحبتنا وهو يؤدي عمله، تذهلها حرفيته، تبهرها صوره، تنعقد الصداقة بينهما وتتطور لتصبح عملاً مشتركًا، وحبًّا.
تساعده هي في تسويق نفسه كمصور محترف، تعرض على وكالات بيع الصور إنتاجاته، تكذب وتخبرهم أن ملتقط الصور أمريكي يدعى روبرت كابا، تنجح خدعتها، وتبيع الصور بأضعاف ثمنها المعتاد بثلاث مرات، وكما غيرت اسمه، غيرت اسمها ليصبح “جيردا تارو”.
كانا يهدفان إلى تغيير أي دليل يشير إلى ديانتهما، في زمن صعود النازية وتوسعها في مطاردة اليهود، وبحلول خريف عام 1934، تصبح أمورهما المهنية والمادية في أفضل حال.
(4)
ترسل الفتاة لوالدتها رسالة:
“حصلتُ على قَصة شعر قصيرة، وربطة عنق تُطوِّق رقبتي، أرتدي حذاءً لامعًا، أستيقظ في السابعة صباحًا، وأعود إلى المنزل في التاسعة مساء، ببساطة انتهت الحياة العبثية”.
يُرسل الفتى هو الآخر لوالدته رسالة:
“عوضًا عن كونها فتاة جميلة للغاية، فهي ذكية جدًّا، لقد حققنا نتائج مذهلة، صرنا نبيع الصور أكثر بست مرات من ذي قبل”.
(5)
بحلول عام 1936 تزداد الأحداث السياسية في العالم اشتعالاً، يطالب الزعيم السوفيتي ستالين كافة الحركات الشيوعية بترك الخلافات جانبًا، والتوحُّد خلف راية واحدة، يستيقظُ سكان باريس على مظاهرات الحركات الشيوعية تملأ شوارعها، يتلقَّى روبرت عرضًا من صحيفة مجرية للعمل مصورًا لكافة الأحداث السياسية التي تعصف بالعاصمة الفرنسية، يتجول صاحبنا كالقط بين الأحياء الباريسية، يصور كافة المظاهرات والاحتجاجات لكافة الأطياف الشيوعية والفاشية.
في الثالث من مايو أيار يفوز حزب الجبهة الشعبية الشيوعي بالانتخابات في فرنسا، وكذلك في إسبانيا، لكن جيشها كان له رأي آخر، فبعدها بشهرين يتحرك الجنرال فرانكو من العاصمة الإسبانية مدريد إلى مدينة تطوان المغربية ليعلن سيطرته على الجيش الإسباني الموجود في المغرب، والذي يشكل المغاربة الجزء الأكبر من قوامه بعد تجنيدهم قسرًا، ثم يتحرك ليعلن سيطرته على جزر الكناري لتكون الخطوة التالية هي التوجه نحو مدريد لخلع حكومة الجبهة الشعبية المنتخبة والانقلاب عليها، ولتندلع حرب أهلية في إسبانيا، ويخرج الجميع في شوارع برشلونة يقطعون خطوطَ الترام وكابلات الهاتف، وتُغلَق المتاجر والأسواق، وتُطلى عربات الترام باللون الأسود.
(6)
يَتحرَّك بطلا حكايتنا صوب برشلونة؛ ليقوما بتغطية الأحداث، وما إنْ يصلا حتى يتلقيا عرضًا من مجلة في باريس تطلب صورًا للأحداث، تذهب تارو إلى مواقع القتال -لتكون أول امرأة في عالم الصحافة- لتلتقط الصور بنفسها برفقة فتاها، تنجح في الوصول إلى القيادة العسكرية للمقاومة في برشلونة، تلتقط صورًا لتدريبات المقاتلين، توثِّق أول مشاركة للمقاتلات النساء في صفوف المقاومة.
يفرض الجنرال فرانكو حصارًا على برشلونة لمنع وصول أيِّ مؤن أو أغذية، لكن برشلونة تَرفض الاستسلام.
صبيحة الخامس من سبتمبر أيلول من عام 1936 يتحرك جنود الجنرال فرانكو نحو قرية سيرو موريانو، يلتقط الشابان صور أهالي القرية المؤلمة وهم يفرون من جحيم القتال، فيما تتحرك طائرات ألمانية -بأوامر من هتلر- لدعم الجنرال فرانكو، ولتحتد المواجهات.
يضطر الفتى للسفر سريعًا إلى باريس؛ لتجديد تعاقده مع المجلات هناك، أمَّا رفيقته فهي في مدينة فالينسيا؛ لتشهد أول هجوم عسكري على المدينة، وتصور الجرحى داخل المشفى، وتشهد الهجوم بنفسها، ثم ترسل الصور -عبر التليغراف- إلى رفيقها في باريس.
(7)
في يوليو تموز للعام التالي تتحرك تارو نحو مدينة برينيت لتصور القتال العنيف هناك برفقة مصور زميل لها، يقول لها وقد اشتدت المعارك علينا ألا نقترب، تصر على الاقتراب جدًّا من مواقع إطلاق النار.
يشتد القتال والقصف بشكل مفاجئ، يسقط عدد من المقاتلين على يد القناصة، لتصبح تارو وزميلها في خطر محدق، تظل ممسكة بالكاميرا، تلتقط مزيدًا من الصور، ينجحان في الاختباء خلف ساتر، يُلطخان نفسيهما بالطين، يتخيَّران نقطة هروب، وينطلِقان جريًا منها.
تركب تارو في سيارة برفقة زميلها، تحتفل -بسعادة بالغة- بأن لديها صورًا هامة توثِّق الأحداث، لكن القدَر كانت يده أسرع.
تتحركُ دبابة فجأة نحو السيارة تدهسها، تسقط جيردا تارو قتيلة، لتصبح أول صحفية مصورة في التاريخ تقتلها الحرب.