علامة استفهام 13: هل إذا عدت أعود؟
(1)
تتعلق بالأمر حد الجنون، تقع في حب الفكرة، تقفز فجأة وتصيح: “أريد أن أفعل ذلك، أريد أن أفعل ذلك”، يحدثونك عن العقل والمنطق، تحدثهم عن المغامرة، عن الدهشة، ثم تحسم الأمر: والله لن أبرح حتى أبلغ.
(2)
كانت الحرب في البلقان قد دخلت مرحلة رتيبة، نفس الأحداث تتكرر كل يوم، تختلف أسماء المناطق وأسماء الضحايا لكن الأمر ذاته، لا حدث عسكرياً كبيراً، ولا مبادرات سياسية تحرك ساكناً.
أما القوقاز فهو اسم في حد ذاته يثير الشجن، الصور المتدفقة من هناك تُسيل لعاب أصحاب المهنة، وجوههم، أزياؤهم، تقاليدهم، هذا البريق في العيون، هذه الأخبار عن تمرد الشعب وتوقه إلى الاستقلال، عن هذا الجنرال الذي أعلن أنه سيقود الثورة حتى النصر، كلها كانت محفزات لا تدعني أهدأ، وتدفعني للانتقال ولو مؤقتاً من سراييفو إلى غروزني.
اتصلت بمن كنت أعمل معهم صحافياً تلفزيونياً مستقلاً، هل ترغبون في أن أمدكم بتقارير من هناك، اعتذروا، أصابني الإحباط، لكن تعلقي بالأمر زاد، غادرت سراييفو، وعدت إلى ماينز الألمانية حيث كنت أقطن، ومنها إلى بون العاصمة الألمانية المؤقتة للحصول على تأشيرة سياحية إلى روسيا، حيث تأشيرات الصحافيين تحتاج إلى إجراءات طويلة ومعقدة.
اتصلت ببعض المعارف ليقوموا بتأمين شخص ينتظرني في مطار موسكو، فرحلة الأجنبي منه إلى وسط العاصمة في ذلك الوقت كانت محفوفة بمخاطر السرقة بل والقتل من قبل السائقين أنفسهم وسط فوضى اقتصادية وأمنية تعم البلاد التي تهتز وهي تشهد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي كانت موسكو عاصمته.
بعد إجراءات معقدة غادرت المطار مع الرجل إلى الفندق، في اليوم التالي جمعتني جلسة قهوة معه، شرح لي خلالها أن من الصعوبة سفر الأجانب من موسكو إلى محج قلعة، عاصمة داغستان، الجمهورية المجاورة للشيشان حيث الحرب في أوجها، قلت له فلنغامر، قال لي بل تقامر، فالأمر جد خطير لو تم ضبطك.
ساعدني في شراء بطاقة السفر وفي اليوم التالي توجه معي إلى المطار، إجراءات معقدة وتوقعٌ بمنعي من السفر حيث لا تسمح تأشيرتي بذلك، لكن الفوضى القائمة ساعدتني.
(3)
حملت حقيبتي وتوجهت إلى الطائرة وسط نظرات الناس التي تراقب هذا الأجنبي، ازدحام وتدافع ووجوه صارمة، لا بأس، أقلعت الطائرة دون أي تعليمات أو معلومات، كنت أنظر إلى ساعتي كل دقيقة، أتعجل الخروج من هذا الضيق.
حطت الطائرة في المطار، وأرجو ألا يذهب فكركم بعيداً متمثلاً ما تعنيه كلمة المطار، فقد هبطت طائرتنا الضخمة في باحة وعلى مقربة منها بناية متواضعة، ظننت أن الركاب أمثالنا سيمرون منها، لكن اتضح لي أنه علي أن أنتظر دوري للحصول على حقيبتي الكبرى من مخزن الطائرة، ومن ثم حملها والخروج إلى ما بعد السور القائم، بعد إثبات ملكيتي لهذه الحقيبة.
كان الليل قد حل، وكنت أعاني حينها عرضاً في عيني يصعّب من رؤيتي، بقيت أتفحص الوجوه التي تقف في استقبال القادمين، لعلي أجد من بينهم هذا العربي الذي وُعدت بأنه سيكون في انتظاري، انصرف الناس كلهم تقريباً ولم يبق إلا شاب داغستاني نحيف يحمل ورقة كبيرة مكتوباً عليها بخط صغير جداً اسمي.
فهمت منه أنه لا يتكلم إلا لغته، وأنه سوف يصحبني إلى صديقي، الذي هو ذاك الطالب العربي المفترض أن يكون في انتظاري، توجهنا إلى سيارته العتيقة، خرجنا إلى الشوارع المغطاة بالجليد، وما إن وصلنا إلى الشارع الرئيسي حتى زاد الشاب من سرعة سيارته التي لم تكن مزودة بما يفعله عامة الناس هناك من لف جنزير على دواليبها حتى لا تتعرض للتزحلق.
هل تعرفون هذه العربات المجنونة في الملاهي التي تطير بك يمنة ويسرة، وأنا معه كنت أتخيل أنني أركب واحدة منها، حتى وقع المحظور وانزلقت السيارة وكادت تصدمنا أخرى، لم يزعجني ذلك قدر ما أزعجتني ابتسامة الشاب وكأننا في رحلة ترفيهية.
وصلت إلى حيث يسكن الشاب، اعتذر لي بأن لديه امتحانات ولم يكن بوسعه انتظاري في المطار وأنني سأقضي ليلتي معه، أصررت على التوجه إلى فندق، انزعج قليلاً ثم اصطحبني إلى الفندق الوحيد المسموح بنزول الأجانب فيه.
بناية تعيسة مظلمة، تحيط بك نظرات حراس الأمن والموظفين والقاطنين، حصلت أخيراً على غرفة قذرة، قررت ألا أخلع ملابسي، حتى الثقيلة منها طلباً للدفء واجتناباً للتلوث، طلبت من حارسة الدور كوباً من الشاي، حذرتني ألا أفتح بابي إذا ما طرقه أحد لأن هناك لصوصاً.
انتظرت حتى ظهر اليوم التالي لينقلني الرجل إلى بلدة حدودية ريثما أتدبر أمري للدخول إلى الشيشان، لا فنادق بها، أوصلوني إلى بيت من طابق واحد يؤجره أصحابه ويعدون لك الطعام، وليست به مياه جارية، فوجئت بوجود صديق وزميله قادمَين من برمنغهام البريطانية موفدَين من هيئة الإغاثة الإسلامية.
(4)
قضيت ليلتي الثانية، ثم الثالثة، إلى أن دلوني على مركز يتجمع فيه الصحافيون على الحدود الداغستانية الشيشانية، هو بمثابة هيئة أوروبية تنسق عمل الصحافيين في إرسال تقاريرهم التلفزيونية إلى مقارهم التي يعملون بها، هناك كانت مفاجأة في انتظاري، فالذي يدير العمل هناك كان يقوم بالأمر ذاته لنفس الهيئة في سراييفو.
صرخنا وتعانقنا، أخبرته عن مهمتي، استفهم مني عن فريق عملي، ضحكت وقلت له أنا هنا وحدي، أجابني أنت مجنون، لسنا في يوغسلافيا، من المستحيل أن تجد هنا مصوراً حراً يمكن أن يعمل معك، فكل المصورين أجانب أتوا مع فرقهم، ولا يمكن أن تجد أحداً هنا من أبناء المنطقة. أصابني الغم، وقلت له لا بأس سأعود إليك غداً، عدت له اليوم التالي، ثم الذي يليه، حيث كانت في انتظاري مفاجأة أخرى.
(5)
هذا الرجل أتى هنا بصحبة الصليب الأحمر لتصوير اللاجئين في داغستان، وقد أنهى مهمته، وبوسعه أن يأتي معك بشرطين، أولهما ألا يدخل العاصمة غروزني التي كانت المقاتلات الروسية تقصفها على مدار الساعة، وثانيهما أن تدفع له خمسة أضعاف ما يتقاضاه المصور في الظروف العادية، هكذا استقبلني زميلي القديم بهذا النبأ.
وافقت، وكنت قد نجحت في التواصل مع قيادات من الثوار الشيشانيين الموجودين في داغستان واتفقنا على يوم محدد للعبور خلسة إلى الأراضي الشيشانية، متجاوزين حدود داغستان التي تحكمها روسيا أيضاً.
انطلقنا في رحلة طويلة، بطريق شاق، كنا فيها على بعد أمتار من الدبابات الروسية، ورحت أتخيل ماذا يمكن أن أقول للجنود الروس إذا ألقي علي القبض حياً، “يا جماعة أنا والله صحافي لكن لم أستطع الحصول على تأشيرة صحافي، ولا تصريح من المركز الصحافي في موسكو، ولا تصريح من السلطات بالسفر خارج موسكو إلى جمهورية أخرى من الفيدرالية التي تجمعهم، ولا تصريح بزيارة جمهورية ثانية تدور بها الحرب وهي الشيشان، لكنني والله صحافي، دفعني جنوني إلى أن آتي إلى هنا ولست من المقاتلين العرب الذين يزعجونكم”، من بوسعه أن يصدق هذا الهراء، ثم إني بصحبة مقاتلين شيشان، ثم ماذا سيحدث في العالم إن تخلصوا مني برصاصة واحدة وليس أكثر.
(6)
على الرغم من أنني بت في قلب الأراضي الشيشانية، وهأنذا ومترجمي ومصوري نقطن في فيلا حديثة على مشارف غروزني ننتظر إذن القيادات بلقاء جوهر دوداييف، الجنرال السابق في الجيش السوفييتي، القائد الحالي لقوات الشيشان المتمردة، والذي بالتأكيد سيكون خارج العاصمة الجحيم.
أيام من الملل نقضيها طوال النهار لا شيء سوى سماع قصص المقاتلين وأخبارهم انتظاراً لقرار من القيادة، ثم سرعان ما حل رمضان، ثم بعد عدة أيام أبلغوني فجأة أن القائد ينتظرني حالاً، سألتهم أين، قالوا في غروزني، فأسقط في يدي، فاتفاقي مع المصور ألا يدخلنها أبداً.
بدأت ألملم حقيبتي فسألني المصور فأخبرته، فذكرني بالاتفاق فقلت له لذلك لم أخبرك، سأتركك هنا فإذا ما عدت حياً نكمل عملنا، وإلا فتدبر أنت أمرك للعودة، غير أنه فكر قليلاً ثم فوجئت يبلغني غاضباً أنه لن يدعني وحدي وسوف يرافقني.
توجهنا محشورين في سيارة سوفييتية عتيقة، كاتم الصوت يصدر أصواتاً متقطعة، فلا تعرف هل هذا الصوت صادر من السيارة أم من القذائف التي تسقط على العاصمة التي ها نحن ندخلها.
كنت، بل كنا، نرتجف من الخوف، مشهد البنايات المدمرة تدميراً كلياً والصواريخ المزروعة في الأرض الساقطة من السماء ولم تنفجر تثير في نفسك كل مشاعر الهلع.
صعدنا بيتاً خشبياً، وقالوا لنا انتظروا هنا، تمر الطائرات الروسية فوقنا، ننتظر إما أن تسقط علينا حمولتها أو على ما حولنا، البيت يهتز كلما مرت طائرة، أتذكر زوجتي وأولادي، ماذا فعلت بنفسي، ما هذا الجنون.
المصور الذي يصحبني بلجيكي يتكلم الروسية بطلاقة، ويبدو أن هذا الأمر أخاف الجنرال الذي سوف يستدرجه الرئيس الروسي يلتسن لاحقاً إلى اتصال هاتفي بدعوى التفاوض، ويفجره بقذيفة مباشرة، لكن يبدو أنهم شكوا في مصوري، وألغي اللقاء في اللحظة الأخيرة.
اتخذت قراراً سريعاً بالنزول إلى شوارع العاصمة والتصوير، ثم أمضي في الطريق عائداً إلى داغستان، والتوقف في كل مكان ممكن للتصوير، مناطق حرب أو مناطق لاجئين، وعدت بحصيلة لا بأس بها، وبثتها حينها قناة إم بي سي التي كنت أتعاون معها على رغم أنهم أبلغوني من قبلُ اعتذارهم.
(7)
الآن أجلس في مكاني الآمن، بصحبة قهوتي، وموسيقى شرقية جميلة وأكتب سارداً ذكرياتي، كيف فعلت ذلك، كيف أتتني الشجاعة للسفر دون أوراق رسمية ودون مؤسسة تدعمني، ودون التأمين وبدَلات الحرب التي يتقاضاها الصحافيون، ودون هاتف دولي أبقى فيه على تواصل مع العالم الخارجي، ودون سترات واقية، وسيارات مدرعة، كما كنت أرى كل زملائي الآخرين القادمين من أوروبا وغيرها، شريط الذكريات يجري وأنا أسأل نفسي إذا عدت بالزمن إلى الوراء هل أعود فأفعلها مرة أخرى؟
(8)
تتعلق بالأمر حد الجنون، تقع في حب الفكرة، تقفز فجأة وتصيح: “أريد أن أفعل ذلك، أريد أن أفعل ذلك”، يحدثونك عن العقل والمنطق، تحدثهم عن المغامرة، عن الدهشة، ثم تحسم الأمر: والله لن أبرح حتى أبلغ. وهذا يا سادة ما يسمونه الشغف، ذاك الذي يدع كل شيء فيك يتدفق بغزارة، الدم في العروق، والأفكار في الدماغ، والبهجة في الروح، وهو الدليل الوحيد والأكيد على أنني ما زلت حياً.. لذا إذا عدت والله لأعود!