(1)
تتلقى الصدمة حين تبلغ الخمسين تقريباً، حتى إن الستين لا يكون وقعها كما هو وقع الخمسين، على الأقل هذا ما حدث لي، تنتبه فجأة أنك عشت نصف قرن، وأنك فعلاً كبرت، ثم تبدأ في رصد ما يقع لك من تغيير، وتسأل نفسك: لماذا لم يخبرنا أحد بأننا سنمر بما نمر به عندما نبلغ هذا العمر؟ وهذا تماماً ما أحاول أن أفعله هنا!
(2)
تعرف أنك كبرت عندما تقول لك الصبية :”يا عمو”، فتتلفت يمنة ويسرة، ثم تكتشف بحسرة أن الجميلة إنما تقصدك أنت، عندما يتنازل أحدهم عن مقعده في الحافلة لك، فتشكره وتكرهه في الوقت ذاته، عندما تذهب إلى طبيب يصغرك بثلاثين عاماً تشكو فيقول لك ما من خطب إنه العمر، عندما تلتقي صديقاً قديماً وتندهش لما حل بمظهره، ثم تتذكر فجأة أنه في عمرك تماماً، عندما تجد من يستهجن تبسطك ومزاحك ويقول لك من في سنك يجب أن يتحلى بالوقار.
(3)
كيف مر عمري بهذه السرعة، وماذا فعلت في حياتي، وكيف انقضت على هذا النحو؟ هي الأسئلة الذهبية التي سترددها ليل نهار ولو كان لك من الإنجازات ما لك، وسيظل شريط حياتك بكل تفاصيلها جاهزاً دائماً ليمر أمام عينيك عندما تستحضره الذاكرة.
سوف يعذبك الندم، ليس بسبب ما خضت من تجارب فاشلة في حياتك، ولا بسبب قرارات اتخذتها واتضح أنها كانت خاطئة، ولا لخيارات ما كان يجب أن تختارها، ولا حتى لحماقات ارتكبتها، فقد فعلت ذلك كله وفق ما كنت تراه حينها، وبطبيعتك الإنسانية التي خلقت عليها، ومن الإجحاف أن تحمل نفسك عبء ذلك، فلست بعالم للغيب ولا بما كان يخبئه لك القدر.
وإنما الندم على الوقت الذي ضيعته، على الأيام والشهور التي أهدرتها في حياتك دون أن تفعل شيئاً أو تنجز أمراً ما، أي أمر، على الوقت الذي كنت تبحث عن أي وسيلة لقتله، على الوقت الذي كنت تستعجل أن يمر، على الوقت الذي أضعته في معارك هامشية، يستوي فيها الغالب والمغلوب، على الوقت الذي قضيته حزيناً على شأن اكتشفت لاحقاً أنه لا يستحق، أو على وقت قضيته خائفاً من أمر لم يقع، على الوقت الذي بذلته لترضي الآخرين، فلم يرضوا، ولم تفعل ما كان يحلو لك.
(4)
في المقابل، فإنك ستشعر بصفاء ذهنك، وأن الصورة باتت واضحة، والأشياء كلها أصبحت في حجمها الحقيقي، وانقشع الغمام الذي كان يحول دون أن ترى الأمور على طبيعتها، سترى العالم بنظرة جديدة وكأنك تشاهد مباراة، تقول كان يجب أن يفعل اللاعب فلان كذا أو كذا، ثم تنصرف.
بالأحرى سترى العالم وكأنه مجموعة من الأطفال الحمقى يتنازعون على لعبة أو قطعة حلوى وأن عليك أن تترفع عن ذلك، في المجمل ستعتقد أنك ما عدت تنتمي إلى هذا العالم، بت تنتمي إلى العالم الآخر، كل ما في الأمر أنك في انتظار المَلك.
لكنك تحار ماذا تفعل فيما تبقى لك من وقت، تتذكر ما يجري عادة مع المحكوم عليه بالإعدام، إنهم يسألونه، ما رغبتك الأخيرة، فتبادر إلى الفعل نفسه، وتسأل نفسك ما رغبتها الأخيرة في الحياة، وفي هذا الحيز المحدود المتبقي لها من الزمان.
تحار كثيرا، تجد نفسك وكأنك عدت إلى سن المراهقة، تريد كل شيء، تريد أن تحتفي بنفسك، تريد أن تكتشف نفسك من جديد، تريد أن تستريح، لكن ماذا لو أمد الله في عمرك مثلاً إلى الثمانين، هل تقضي عشرين عاما هكذا في انتظار الموت؟ لا.. تريد أن تعمل بجد حتى آخر لحظة.
تريد أن تسكن وتستقر؟ لا.. تريد أن تحمل حقيبتك الصغيرة وراء ظهرك وترحل، الرحالة لا يتوقفون أبداً.
إنه حوار داخلي ساخن.
شخصياً، قررت أن أتصالح مع نفسي، أتصالح مع عمري، وأن أعيش لذة المرحلة، قررت ألا أصبغ شعري، وألا أغير من هندامي، وأن أظل أمزح وأضحك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، والأهم أن أحافظ على الولد الشقي بداخلي، المجبول بالحركة، المدفوع بالدهشة، عاشق المغامرة، مدمن التجارب الجديدة.
عندما كبرت قررت ألا أقوم بدور المتقاعد، وإنما أبحث دوماً عن مهمة أقوم بها، مهمة جديدة ما إن تنتهي حتى أخوض أخرى، “فإذا فرغت فانصب”، أنهي عملاً لأبدأ آخر.
(5)
لقد لاحظت مبكراً أن هناك فرقاً كبيراً بين أن نكبر وبين أن نشيخ، نحن نشيخ حين نفقد الأمل، حين لا نرغب في شيء، حين نشعر بأن وجودنا زائد على حاجة البشر، وأن الستار أسدل ولم يعد لنا من دور نؤديه، حين نفتقد لذة الوجود، وبهذا المعنى فإن الشيخوخة حالة، وليست مرحلة من مراحل العمر، حالة قد تجد شباباً يعيشونها.
بصراحة وعلى رغم أن الأمر لا يخصني فإنني تحمست جداً عندما قرأت أن التاريخ حافل بأناس كانوا يلمعون في أواخر عمرهم، من بينهم مايكل أنجلو وباخ وإديسون الذي قدم براءات اختراع وهو في سن الثمانين، وستاتشيل بايج لاعب البيسبول الذي ظل يشارك في البطولات الكبيرة حتى سنّ الـتاسعة والخمسين.
كتبت سيمون دو بوفوار في مقال لها: “هناك حل واحد لكيلا تصبح الشيخوخة محاكاة سخيفة لحياتنا السابقة، وهو الاستمرار في السعي نحو غايات تعطي لوجودنا معنى، مثل التفاني للأشخاص، أو المجموعات، أو القضايا، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو إبداعية”.
(6)
عندما تبلغ ما بلغتُ ستشعر بأنك تمتلك الكثير بما تعلمته من دروس الحياة القاسية والطويلة، والتي دفعت ثمناً باهظاً لها، لكن السؤال الصادم: وما فائدة ذلك كله، ما جدوى هذه الدروس كلها، وماذا تفعل بهذه الحكمة التي اكتسبتها؟
قبل نحو ثلاثين عاماً قرأت لأحدهم أننا يجب أن نعيش مرتين، حياة نتعلم فيها، وحياة نطبق فيها ما تعلمناه، فما جدوى دروس لا يمكن تطبيقها؟ هل تتخيل أنني أتذكر ذلك بالرغم من مرور كل هذا الوقت؟ ربما لأنني كنت مندهشاً كما أنت الآن مندهش.
تفكر في أن من الأفضل أن تنقل خبرتك ودروسك وحكمتك إلى الشباب، دليلك في ذلك ما قاله خوسيه ساراماغو: لا الشباب يعرف ما يستطيع، ولا الشيخوخة تستطيع ما تعرف.
لكن الشباب، ومعهم الحق، يريدون أن يعيشوا تجربتهم هم، بطريقتهم هم، بخصوصيتهم هم، فالحياة صناعة يدوية، تتم بمهارة وخصوصية صانعها وبذوقه.
الشباب، ومعهم الحق، لا يريدون ثوباً مصنوعاً جاهزاً، لذا يرفضون نصائح الكبار المملة، يتجاهلونها ويخوضون الحياة، يتعثرون مرة وينجحون أخرى، يسيرون مرة ويسقطون أخرى، حتى يصلوا إلى هذا العمر فيقول الواحد منهم ماذا أفعل الآن بدروسي وحكمتي، فلأعلمها للشباب، ويكون موقف الشباب كما أسلفت، وهكذا دائرة لا تتوقف.
(7)
الآن.. ماذا أنت إذاً بفاعل إذا كبرت؟
تذكر نصيحتي هذه: كن مقاتلاً حتى اللحظة الأخيرة، وإن كنت حينها ستخسر بعض الأشياء فاحرص على ألا يكون قلبك من بينها، احرص على ألا تخور قوة قلبك أبداً.