علامة استفهام 31: متى نركض؟
(1)
وقع لي قبل فترة وجيزة أمر سبَّب لي ربكة غير عادية، في الحقيقة أصابني بالهلع، فقد شعرت بأن جهدي الذي بذلته على مدى ثلاثة أشهر ماضية كدت أواصل فيها الليل بالنهار قد ذهب سُدى، اتصلت بكل من يستطيع في نظري المساعدة أو إبداء النصيحة، سلكت كل السبل، انزعجت واضطربت ثم فجأة توقفت وسألت نفسي: لماذا كل هذا الركض؟
(2)
من منا لديه الشجاعة ليقرر متي يتوقف عن الركض؟
وهل من الصائب بالأساس أن نتوقف؟
أليس الركض من أجل قضاء الحاجات ضرورة ومقاومة ونضالًا محمودًا؟
ماذا نريد من الدنيا؟ وماذا تريد منا؟
“الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”.
أوَنكون نيامًا حتى ونحن نركض؟
(3)
حاجات الإنسان لا تنتهي أبدًا، ما إن يقضي واحدة يعتقد أنها مهمة جدًّا، حتى تبدو له أخرى، فيقول: أنتهي منها ثم أستريح. ثم إنه ينتهي منها، لكنه يجد أخرى ولا يستريح، وهكذا دواليك، إلى أن يصبح عجوزًا، فيكتشف مدى العبث الذي قضى شطرًا كبيرًا من حياته فيه.
تركض وأنت في مقتبل حياتك، لتفوز بالجاه والسلطان الذين تحلم بهما، فإن بدا ذلك متعثِّرًا فإنك تتواضع قليلًا في أحلامك وتُقَلِّل من سقفها، ثم تركض لتحقيقها، فإن بدا ذلك متعثِّرًا، فإنك تركض سعيًا إلى حالة تُهَيَّأ لك فيها على الأقل حياة كريمة، المهم أنك في كل أحوالك تركض.
ولما لا والكل يحثُّك على ذلك، الوالدان والمدرسون، والأدباء والفنانون والحكماء؟ يقولون لك: أركض في هذه الحياة الدنيا بكل ما أوتيت من قوة.
لا أحد ينصحك متى تتوقف لتلتقط أنفاسك، لا أحد يحدثك حتى عن مهلكات الركض.
(4)
تثيرك المنافسة، تركض أسرع، تنقطع أنفاسك، ثم تكتشف أنك أسأت التقدير، فأنت تنافس في أمر لست بارعًا فيه، رغبة في التغلب على آخر لديه هذه الموهبة، تفكر وتكتشف أن ما لدى هذا الآخر ليس لديك، وأن ما لديك ليس لدى الآخر.
بل إن الأهداف تختلف، فكيف تركض لهدف يركض إليه الآخرون؟ اركض لهدفك أنت، حتى وإن كان قاربَ صيد وكوخَ صياد على الشاطئ.
تركض لتكون رجلًا مستقلًّا بعملك، في حين أنك لا تجيد هذا الأمر، ويلائمك أكثر أن تكون موظفًا في كيان ما.
تركض نحو الوظيفة باعتبار أنها تضمن لك استقرارًا ماديًّا، فيما أنت لا تصلح لها، وإنما لعمل حرٍّ.
تركض لتكون كاتبًا وأنت خُلِقْتَ لتكون طبيبًا.
تركض لتكون طبيبًا وأنت خُلِقْتَ لتكون كاتبًا.
ثم أتركضُ لتحقيق هدفٍ محدَّد أم تركض للركض في حد ذاته؟
إنه نوع من الإدمان أدَّعي أنني مصاب به؛ أن تعمل دون انقطاع، طوال أيام الأسبوع، طوال شهور العام، أن تشعر بتأنيب ضمير إذا توقفت ولو لساعة، يلاحقك أحيانًا هذا الشعور؛ شعور تلميذ نجيب لا يريد أن يضيع لحظة من وقته إلا في المذاكرة، ويخشى أن يضبطه أبواه يستريح للحظة.
(5)
في المقابل.. هل لدينا رفاهية الاختيار بين أن نركض أو لا نركض؟
هل من العقول أن تطلب من فقير لديه خمسة أبناء مثلًا أن يتوقف عن الركض وأن يستمتع باللحظة.
ولكن هل من المعقول أن يتمكن هذا الفقير من الاحتفاظ بقدرته على الركض دون أن يلتقط أنفاسه.
استمتعتُ وأنا أشاهد فيلمًا يحكي سيرة دولتون ترمبو – أحد عباقرة كتاب السيناريو الأمريكيين – الذي تعرض للإيذاء والسجن متهمًا بالشيوعية في زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
لقد مُنِعَ من ممارسة عمله فلجأ إلى الكتابة باسم مستعار، واضطر للكد ليل نهار حتى يؤمِّن لعائلته التزاماتها، تطلب منه ابنته أن يحتفل معها بعيد ميلادها في صالة البيت، لكنه يرفض أن يغادر حجرته؛ لأنه لا يريد أن يضيع ولو القليل من وقت معركته، لقد كان يركض فعلًا بأقصى سرعة حتى انتصر، وعاد إلى الساحة رسميًّا، ونال من الجوائز ما نال، أفيُلام على ذلك؟
إن أعمارنا على هذه الأرض مهما طالت هي محدودة، فهل من المنطق أن نضيعها دون عمل جاد، هل من الحكمة ألا نركض ركضًا لتحقيق أكبر إنجازات ممكنة قبل أن نغادر هذه الأرض؟ ثم ألم يقل ربُّنا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]؟
(6)
نركض أو لا نركض؟
لقد أرهقني جدًّا هذا السؤال، إلى أن هُدِيتُ إلى ما أظن أنه الإجابة.
إن هذا العالم يعمل وفق حالة مدهشة من التوازن، ومن يدركها لا يملك إلا الإيمان بقوة عظمى أوجدتها، وتتحكم فيها، وأن أي خلل في هذا التوازن يحدث ضررًا، وبقدر الخلل يكون الضرر.
وكأن الخالق يريدنا أن نتحكم في مسار أمورنا بنفس هذا المنطق من التوازن، فنعرف متى نركض ومتى نتوقف.
ونجيد فن الإمساك باللحظة، وألا نجعلها تفر من بين إيدينا على أمل أن تعود لنا، فهي لا تعود أبدًا.
لن تعود أيام عمل قضيتها في دائرة القطب الشمالي وتمنيت أن تزيد ولو يومين، يومان فقط أقضيهما استمتاعًا.
لن تعود أيام عمل قضيتها في غابات الأمازون وتمنيت أن تزيد ولو يومين، يومان فقط أقضيهما استمتاعًا.
وعدتُ نفسي ولم أتمكن من الوفاء بوعدي ذلك؛ لأنني كنت أركض ركضًا.
نحن بحاجة إلى ميزان حسَّاس لنُقَدِّر بدقة في لحظة ما إذا كان علينا أن نركض أو ألَّا نركض.
بحاجة إلى أن نُدَرِّب ضمائرنا لتكون مخلصة لأنفسنا بقدر ما هي مخلصة لفضيلة الركض.
أن نقلل من استهلاكنا، فتقل حاجاتنا الزائدة، أن نتحلى بالقناعة، أن نتنفس.
إنه أمر شائك، وقرار متكرر، لا يتخذه المرء مرة في حياته وينتهي الأمر.
وإنما علينا أن نتوقف من حين لآخر ونسأل أنفسنا عن لحظتنا الراهنة، أهي تفرض علينا أن نركض أو ألا نركض؟