(1)
تخيَّلوا أن فرعون ما زال حيَّا، لم يغرقه الله، عبر إلى الضفة الأخرى، وإن كان مهزومًا.
تخيلوا أن ستالين، وموسوليني، وهتلر، وهوشي منه، وبول بوت ما زالوا أحياء.
تخيلوا أن تشي جيفارا، وعمر المختار، ووليم والاس، وغاندي ما زالوا أحياء.
وكذلك الرسل والأنبياء، والأقرباء والأصدقاء، والأعداء والأحباء.
(2)
صغيرًا سألت والدي مرة: ما سر مديح الله للذين يؤمنون بالغيب؟ فقال لي ببساطة: لأنه يعكس قوة إيمانهم بإله لم يروه، ويجزمون بوجوده، وبأنه أوجد الوجود، ويحلمون بمستقبلهم الحقيقي؛ ما سيكونون عليه بعد الممات، ويتحملون كل ما يجري لهم في الدنيا ولا يأبهون به؛ فهو قدر الله، الله الذي لا يرونه، لكنهم يصبرون كما أمرهم، ويتوقعون الفوز بالجائزة كما وعدهم، ألا يستحقون المديح؟!
لم أستوعب كل المعاني حينها، لكن كأن ما قاله والدي حُفِرَ في ذاكرتي.
أدركت لاحقًا أن الإيمان بفكرة أو عقيدة، ربما هو أصعب وأخطر قرار يمكن أن يتخذه الإنسان في حياته، أقصد الإيمان بأي عقيدة أو بأي فكرة، فعندما تفعل إنما تعيش وفق ما تؤمن به، تأكل وتشرب، وتعمل وتتزوج، وتربي أولادك عليها إن اختاروا نفس المعتقد، وإجمالًا تتحمل تبعة إيمانك سلبًا وإيجابًا، إنه رهان صعب جدًّا.
بالنسبة لنا فأن تؤمن لا يعني أن تؤدي الشعائر والفروض، بل الأمر يتجاوز ذلك كثيرًا، هذا في حالة أن الإيمان كان اختيارك وليس ميراثًا ورثته، إنه يفسر لك الحياة، ويفسر لك الموت، ويفسر لك ما بعد الموت.. “الذين يؤمنون بالغيب”.
(3)
الغريب أننا نسعى إلى أن نفهم سر الموت، وما يجري بعده، ونحن لم نفهم بعد سر الحياة وما يجري فيها.
هل للحياة سر؟!
بالتأكيد، ليس من المعقول في هذا الكون المحكم في خلقه، المعقد في تكوينه، المتناغم في أجزائه، أن يكون الإنسان – هذا الكائن العظيم – قد خُلق عبثًا.
هناك سر عام لنا نحن البشر الذين أرسلنا الله إلى الأرض، سر عام يجب أن نفهمه.
وهناك سر خاص بكل منا، يجب أن يدركه كل واحد على حدة قبل أن يموت، بل قبل أن يفقد قدرته على الحركة والعمل به.
سر يخصك أنت: يا ليلى، يا هدى، يا حسن، يا إسماعيل، مهما كنت، ومهما كانت قدراتك وقواك، ومهما كان وضعك في المجتمع، ومهما كانت وظيفتك، ومهما كان منصبك.
ليس في جسم الإنسان عضو أو جهاز أو خلية إلا ولها دور ما، فهل تتوقع أن الله عز وجل خلقك كلك عبثًا، لا دور لك، ولا أهمية لك؟! حاشا لله.
اكتشف السر العام، واكتشف سرك الخاص؛ تستقم لك الحياة كلها.. “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا”.
(4)
في روايته “انقطاعات الموت”، يفترض البرتغالي “جوزيه ساراماغو” أن الموت قد توقف عن عمله في بلد ما، وراح يتخيل ماذا يمكن أن يقع لو أننا فعلًا لا نموت: ماذا سيحدث للعائلة التي يتراكم فيها عدد لا متناهٍ من كبار السن بما يعانون بطبيعة الحال من أمراض لا حصر لها نتيجة تعرض أجهزتهم الحيوية للعطب الكلي أو الجزئي؟! وكيف سيتصرف الأبناء مع وجود أجدادٍ وأجدادِ أجدادٍ، سيضاف إليهم المزيد من كبار السن مع تقدم الأيام، وكل واحد منهم يحتاج إلى عناية مكثفة بعدما رُدُّوا إلى أرذل العمر؟!
وما حال المستشفيات والمراكز الطبية المكتظة أَسرّتُها والتي لا تكفي ممراتها للمرضى الذين لم يعد بعضهم يغادر إلى “ثلاجة الموتى”؟! وماذا بوسع الهيئة الحكومية المختصة بالتقاعد والضمان الاجتماعي أن تفعله مع هذا العدد الهائل الذي يخرج من سوق العمل، ولكنه لا يخرج من الحياة، ومن حق الجميع نيل رواتب تسد رمقهم في حياتهم الطويلة المقبلة التي لا تنتهي؟! وكيف ستتصرف شركات التأمين التي تؤمِّن على الحياة مع انعدام الموت؟! وما مصير الآلاف الذين يكسبون لقمة عيشهم من مهن متعلقة بالموت، كحفاري القبور، وشركات تجهيز الموتى؟!
كيف سيتصرف الناس، والمؤمنون منهم، إذا علموا أن لا موت، ومن ثَمَّ لا حساب؟! “الأديان جميعها، مهما قلبناها، لا مسوغ لها في الوجود سوى الموت، مثل حاجة الفم إلى الخبز”. كما يقول ساراماغو، ويضيف على لسان أحد الشخصيات ما معناه: “عم ستكتب المواعظ الرنانة إذا لم تتوعد البشر المخطئين بالجحيم بعد الموت، فلم يعد هناك موت؟!”.
لقد راح يقنعنا بفوائد الموت حتى قال النقاد: إن الرواية أشبه بملحمة في مديح الموت، وكراهية الخلود، الذي من المفترض أنه حلم البشر، ليصل إلى نتيجة: أن على البشرية أن تقبل به كوجه العملة الآخر للحياة، فالمرء لا يستطيع العيش بدون الموت، مع أنه يظهر كتناقض ظاهري للحياة، ولكننا في الحقيقة يجب أن نموت لكي تستمر الحياة.
(5)
نعم، يعيش المؤمنون وأبصارهم معلقة بيوم القيامة، يدركون أنه سيكون يومًا صعبًا بالتأكيد، لكنهم يضعون عليه كل آمالهم: الثأر ممن ظلمهم، الجائزة التي كانوا يستحقونها وسلبت منهم زورًا وبهتانًا وفسادًا، أحلامهم التي فشلوا في تحقيقها رغم نواياهم الطيبة.
تبدو الحياة كئيبة جدًّا ومرعبة جدًّا من دون يوم قيامة يأتي بعد الموت.
كل الذين تعرضوا للظلم والمرض، وعصفت بهم رياح الحياة بلا ذنبٍ؛ ألا يستحقون حياة بديلة؟
الذين استشهدوا، أليس من حقهم حياة أفضل من حياتنا، مكافأة لهم عما فعلوه؟
وربما لو عاش بعضهم لانحرف، فكم من مناضل خرج واضعًا روحه على كفه، متعاليًا على كل الإغراءات، متحملًا كل التهديدات، فلما انتصر حاد عن الطريق، ظلم وطغى وتجبر.
كم من مؤلف اشتهرت مؤلفاته بعد مماته! وكم من مفكر ترعرعت أفكاره بعد رحيله!
الحياة بدون موت وبدون قيامة مرعبة.
نعم الموت أبدا ليس هو نهاية الحكاية.
نحن لن نتبخر، صحيح سوف تتحلل أجسادنا، لكن أرواحنا باقية في مكان ما لا نعرفه حتى يوم الحساب.
الأمر كله في الروح، لكننا نهتم بالجسد، نهتم بما سيفنى على حساب ما سيبقى.
الحياة أشبه بالوهم، حلم قصير للغاية، ورقة امتحان تملؤها بإجاباتك، نطلق عليها الحياة، يصفها الله بأنها الحياة الدنيا؛ لأن الحياة الحقيقية ليست هنا. لذا لن تحلو الحياة إلا بالموت!
(6)
إننا نشكو الحياة، لكن لا نريدها أن تنتهي!
صديق شاب، طاقة وحيوية، أصيب بمرض، بات مقعدًا في سريره، مغطى بالأربطة، يحتضر، يخبر من حوله أنه يكره الموت ومستعد للحياة حتى ولو على هذه الشاكلة.
حتى الذين يرغبون في أن تنتهي حياتهم من وطأة ما يعانون يعتقدون خطأً أن الموت راحة، الموت ليس نومًا حتى نرتاح، إنه انفصالُ ما يفنى عما لا يفنى، انفصال الروح والجسد.
الغريب أن منَّا من قرر أن يموت قبل أن يموت.
الذي ينتحر، مثله مثل طالب في قاعة امتحانات، قرر فجأة أن يمزق ورقة الإجابة ويغادر القاعة، لقد اختار مسبقًا أن يرسب.
الذي قاطع الحياة وزهد فيها، مثله مثل المنتحر تقريبًا. يقول النجم السينمائي ريتشارد جير: “إنها الحياة، ولا أحد سيخرج منها حيًّا، فتمتعوا بأكل الأشياء الطيبة، واخرجوا إلى الشمس، قولوا الحقيقة التي في قلوبكم، كونوا مجانين، كونوا طيبين، كونوا مختلفين، فليس هناك وقت آخر لغير ذلك”.
(7)
نعود من الجنازة وكأن الذي أصاب فقيدنا لن يصيبنا أبدًا.
نظريًّا نحن نعترف بالموت، لكن عمليًّا في حياتنا اليومية نؤمن أنه بعيدٌ عنا جدًّا، لذلك تبقى ورقة الإجابة أحيانا كثيرة فارغة، لا نملؤها بما يجب أن تملأ به.
مرارة الموت الحقيقية في الفراق.
فقدان الأحبة مؤلم جدًّا، لا أعلم لماذا لا نتذكر أننا لاحقون بهم، المسألة فقط مسألة وقت ونلتقي.
هل فعلا كما يقال، عندما تصعد أرواحنا سيكون الأقرباء في انتظارنا؟
والدي العزيز، والدتي الحبيبة، أختي الغالية، صديقي ومعلمي أحمد يونس، وغيرهم وغيرهم، سوف يسألوننا ربما عما وقع بعد رحليهم، لا أظن بعد أن تيقنا من يوم القيامة أننا سنكذب عليهم.
أتذكر مشهد دريد لحام في مسرحية (كأسك يا وطن) وأبوه يتصل به من الجنة ويسأله عن القضية التي استشهد ورفاقه من أجلها، ودريد يكذب على أبيه، كما كذب علينا برفع شعارات خانها وانحاز للظالم.
الحقيقة الوحيدة التي اتفق عليها البشر عبر الزمن وعلى اختلاف الجغرافيا هي الموت، لكننا اختلفنا ماذا بعد الموت، فالذين يعتقدون أنه الفناء لم يجدوا إجابات على أسئلة كثيرة، والذين يؤمنون بيوم القيامة يدركون أن في القيامة بحد ذاتها إجابات وافية لكثير من الأسئلة، والأسئلة الأخرى سيرفعونها إلى مالك يوم الدين.