(1)
أخوض تجربة جديدة، ممتعة ومزعجة في الوقت ذاته، لكن اللافت فيها رسائل الأبناء التي تصلني ويشتكون فيها آباءهم وأمهاتهم، ولأني أب عتيق، فقد اعتدنا نحن معشر الآباء والأمهات أن يكون الأبناء هم موضع شكوانا كلما اجتمعنا: سهر الليالي وهم رضع، رعايتهم وتربيتهم صغارًا، تمردهم وعنادهم ومشاكلهم الدراسية وهم مراهقون، ثم معركة الزواج وتوابعها، إن مشاكلهم لا تنتهي. لكن الرسائل تفيد العكس تمامًا.
(2)
“أمي لا تعانقني”، جملة قصيرة تختصر شكوى مريرة، والبنت تقول: إن الأمر لا يقف عند حرمانها من ضمَّة تمنحها الشعور بالأمان وامتلاك الدنيا كلها فحسب، لكن لا كلمة حلوة تسمعها عند الإنجاز، ولا مواساة عند التعثُّر، ولا أي ثناء من ذلك الذي تحب أن تسمعه أي فتاة.
نخطئ عندما نكتفي بأن نحب بإخلاص، نخطئ عندما نعتقد أن لا حاجة للتعبير عن ذلك، فبالتأكيد الأم تحب ابنتها، لكنها لا ترغب في التعبير عن ذلك أبدًا، لربما اعتقدت أن في ذلك دلالًا زائدًا، أو لربما ظنت أن التعبير عن الحب يضعف شخصية الأم أمام ابنتها، والحقيقة هي العكس.
ربما على الأب أن يكون حازمًا، فيما تظل الأم بنك الحنان، إليها يلجأ الأطفال، تخفف عنهم إذا تجاوز الأب وقسا عليهم، تجيب خفية بعض مطالبهم، تخفف عنهم متاعبهم ولا تستخف بها.
(3)
نحب أولادنا بجنون، ونتمنى أن يكونوا أفضل أقرانهم، ومن أجل ذلك قد نعتمد طرائق تربية مؤذية، تمامًا مثل الأم التي تطمح أن تكون ابنتها شخصية مثالية في كل شيء، لذا هي تربأ بها أن تفعل ما تفعله صديقاتها، لا تريد لها أن تسمع تلك الأغاني، ولا أن تعزف تلك الموسيقى، ولا أن تشاهد هذا الفيلم، ولا أن تمارس هذه الرياضة، والبنت تريد أن تعيش مرحلتها العمرية كما يجب أن تعيشها، تمارس ما يمارسه أقرانها، وطبعًا الأمر ليس على إطلاقه، فالقاعدة معروفة: (ما أحله الله وما حرمه)، غير ذلك فهناك فسحة واسعة.
ولأن الأم ترغب في أن تكون ابنتها شخصية مثالية، أيقونة ورمزًا غير مسبوق، فإنها لا تريدها أيضًا أن تخطئ، تحيطها من كل جانب، تُلَقِّنها الأوامر والنواهي، ماذا يجب أن تفعل، وماذا يجب ألا تفعل، والبنت تريد أن تخوض تجاربها بنفسها، تصيب مرة وتخطئ أخرى كطبيعة البشر، لتتعلم دروسها بنفسها.
ترى ماذا ستفعل هذه الفتاة عندما تكبر وتتزوج وتنجب ويغيب الوالدان؟! كيف ستخوض حياتها وقد اعتادت أنَّ هناك دائمًا من يحيطها من كل جانب حتى لا تسقط؟! فلتسقط الآن تحت أنظار والديها، فيسرعان بمساعدتها، أفضل من أن تسقط لاحقًا وهي وحدها.
(4)
نحن الآباء والأمهات نبذل في سبيل أولادنا وتربيتهم وتنشئتهم كل ما نملك، فعلًا نعاني سنوات طويلة، ونضحي بكل ما بحوزتنا، وتضيع سنوات شبابنا ونحن نحاول أن نوفر لهم ما يمكنهم من حياة كريمة في مستقبلهم، لكن هل هذا سبب كاف لأن نرغب في أن يكون أولادنا نسخة منا؟ إنه مبلغ الأنانية، أن نمسخ شخصياتهم، أن نطلب منهم أن يكونوا مثلنا تمامًا، يحبون ما نحب، ويكرهون ما نكره، ويدرسون ما درسنا، ويتخصصون في نفس مهنتنا.
لقد خلق أولادنا لزمن آخر، غير زماننا، ولو صاروا نسخة منا بأفكارنا وعاداتنا، فإنما نظلمهم؛ لأنَّهم سيصبحون متأخرين عن زمانهم.
لماذا نعتبر أنَّ في مخالفة أولادنا لنا نقصان احترام لنا، وليس فيه وفاء لما بذلنا، وظني العكس، نحن نربيهم ليكونوا شخصيات مستقلة حرة، وأول الاستقلال أن يختاروا ما يشاؤون، إن أرادوا باختيارهم أن يصبحوا مثلنا فشيء جميل، وإن أرادوا أن يكونوا مختلفين عنا فهو جميل أيضًا.
وعلى ذكر الاختلاف، أطرح سؤالًا دون إجابة، من منَّا يقبل أن يختلف معه ابنه في رأيه، أن يقول الابن أو البنت لأبيهما أو أمِّهما وبكل احترام وبكل الكلمات المهذبة: أختلف معك في رأيك؟
(5)
حين يعزز الآب دور الابن على حساب دور الابنة فقد ظلمها، وظلم زوجة ابنه المستقبلية، وظلم كل امرأة ستقع في طريقه، لقد أرسى مبدأ خاطئًا، دون سند من الإسلام إذا كنت قد ارتضيته دينًا، لكننا نميل إلى عاداتنا وتقاليدنا وما ورثناه من أجيالنا السابقة.
لا تجبر ابنك أو بنتك على دراسة تخصُّص ما، سواء كان تخصصك أو تخصصًا تراه بحكم خبرتك مناسبًا له أو لها، أسدي النصيحة ثم دعه يفكر فيها على مهل ويتخذ قراره ويتحمل مسؤوليته.
لا يجب أن تتعامل معه على أنه جاهل بالأمر، غير واعٍ، لا يعرف مصلحته كما تعودنا القول، نعم هو لم يكتمل بعد، لكن بعض الأبناء تكون الصورة واضحة تمامًا لهم منذ صغرهم، لقد حددوا شكل مستقبلهم الذي سيعيشونه فيما أنت بطبيعة الأمر ستكون غائبًا عن هذه الدنيا.
لا تكف عن النصيحة لأن هذا واجبنا، لكن لا تغضب إن اختلفوا معك، لا تغضب إن لم يعملوا بها، أو إن أخذوا ببعضها وتركوا بعضها.
(6)
أعرف أنه أمر صعب، لكن نتائجه باهرة، وسوف تستمتع به.
ما إن يكبر أولادك كف عن التعامل معهم على أنهم هؤلاء الصغار الذين كنت تحملهم على رقبتك، وتغير لهم ملابسهم الداخلية والخارجية، الآن يسكن معك أشخاص ناضجون، كبار، كأنهم غرباء، لكل واحد شخصيته وحاجاته، أنت لست قائدًا في جيش عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا.
عاملهم كأصدقاء، ستجد العجب العجاب، ادخل معهم في حوارات، لا تحتكر منبر الخطابة، دعهم يتحدثون ويعبرون عما يجيش بهم، اطلب منهم العون إذا مرت بالعائلة أزمة ما، انقلهم من خانة “المفعول به” إلى خانة “الفاعل”، دعهم ينضجون تحت سمعك وبصرك.
في هذه المرحلة العمرية هم في مرحلة انتقالية يستعدون لمغادرة عالم أبيهم وأمهم، فاترك في نفوسهم كل أثر طيب، لا تمُنَّ عليهم بما بذلت من أجلهم، ولا بما أنفقت عليهم، انتظر تقديرهم لك من أنفسهم، فإذا لم يفعلوا فهم حصاد تربيتك، عليهم اللوم وعليك أيضًا، فلا تتهرب من ذلك.
امنحهم الحرية ولا تخف، سوف تجني ما زرعت فيهم وهم صغار، قيودك لن تحميهم من الخطأ، بل قد تدفعهم إليه، قيودك ستعودهم على قيود الآخرين، فلا تدعهم أسرى لقيد أبدًا.
استعن بالله، فلم ينجح أحد منا في تربية أبنائه بفضله، ولكن بفضل الله، دع الرحمن يحيطهم بالرعاية، ادع كثيرًا لهم، ليس فقط بالنجاح في الدنيا، ولكن بالنجاح في اختبار الآخرة.
(7)
في سنوات العنفوان نعتبر أنفسنا قادرين على كل شيء، نظريًّا نعترف بما سيفعله الزمن معنا، لكن على أرض الواقع لا نعيش هذا المعنى، نظن أننا سنبقى دائمًا أقوياء، لن تصيبنا الأمراض، ولن تنحني ظهورنا، ولن نتوقف عن العمل، ولن نلهث عند صعودنا السلم، ولن نفقد موقعنا كمركز الاهتمام، وعندما تمر السنوات سريعًا، عندما نصبح شُيوخًا كبارًا سيكون أولادنا في عنفوانهم، وحينها سننظر إليهم لعلهم يردون الجميل.
والحقيقة أن ما زرعناه في شبابنا معهم سنحصده في شبابهم معنا، إن كنا كرماء سيكونون كذلك، إن كنا رحماء، إن كنا نحترمهم، إن كنا نسمع لهم، إن كنا نتحمل حماقاتهم، إن كنا نصبر عليهم؛ بمثل ما كنا معهم سيكونون معنا، وبغض النظر عن نياتنا الحلوة معهم، فقد تكون نياتهم أيضًا كذلك، ولكن لن يمنحونا ما ننتظره منهم؛ لأننا لم نمنحهم ما كانوا ينتظرونه منا، لذا انتبهوا إلى ما تزرعون، لن يبرونا ما لم نبرهم.