(1)
ذات صباح قالت لي صديقة: “إن المؤمنين ليس بوسعهم خوض غمار الفن، لأن الفن يحتاج إلى بوهيمية، وهم يقيدون أنفسهم بما يعيق عملية الإبداع”.
(2)
في فترة ما من حياتنا انتشرت ظاهرة وصف مؤسسة ما أو منشأ ما بالإسلامية، حتى وجدت مرة لافتة مكتوبًا عليها “صيدلية إسلاميَّة”، ولم أفهم المقصود، هل تبيع أدوية حلال، وهل هناك أدوية حرام؟
حماسنا للدين يدفعنا أحيانًا للتكلف، والأمر أهون من ذلك كثيرًا، فالعودة للدين تعني استبعاد ما يخالفه، وليس خلق واقع جديد مختلف تمامًا عن الواقع القائم.
لذلك يعجبني قول العلامة التونسي الطاهر بن عاشور: “إن الإسلام جاء بمقصدين عظيمين، هما: التقرير والتغيير، فلم تأتِ رسالة الإسلام لمحو الحياة الجاهلية بكل ما فيها، وإنما أقرت ما كان فيها صالحًا نافعًا متوافقًا مع الفطرة الإنسانيَّة، لأن الجاهليَّة العربيَّة لم تكن شرًّا محضًا، بل كان فيها خير وشر، فأقر الإسلام ما فيها من خير، وأبطل ما فيها من شر، وهذا هو مقصد التغيير”.
وبهذا المنطق فإن هناك أعمالًا فنية وسينمائية تحديدًا يمكن وصفها إذا تكلفنا بأنها إسلامية، أو فلنقل ليس بها تجاوزات “شرعية”.
من منا لم يشاهد فيلم “العار” الذي كتبه محمود أبو زيد، وهو يتناول الوالد الحاج الذي يتجنب كل ما هو حرام في معاملاته التجارية، لكنه يتاجر في المخدرات، وأبناؤه الذين يحاولون الهروب من هذا الواقع بعد اكتشافهم أمر تجارة أبيهم عقب وفاته، بل إن المخرج علي عبد الخالق ينهي الفيلم بوعظ مباشر مستخدمًا الآية القرآنية: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
الثنائي: الكاتب والمخرج كررا المحاولة في فيلمهما المشهور “جري الوحوش”، والذي تعرض لقضية التعارض المختلق بين العلم والإسلام، وتناول مسألة قبول البشر بأرزاقهم المقسومة والرضا بها، بل تطرق إلى حرمة التفريط في أجزاء من الجسد بالبيع والاتجار في تجنٍّ واضح على الأمانة الإلهية الموضوعة في البشر.
ولا يمكن أن ننسى أفلام مصطفى العقاد، عمر المختار والرسالة وغيرهما، التي ما زال الناس حتى الآن وبعد سنوات طويلة من إنتاجها يتابعونها.
وفي تركيا نجح منتجو الأعمال الدرامية في السنوات الأخيرة في تقديم طفرة عبقرية لم تخطر على بال أحد بإنتاج مسلسلات الغازي أرطغرل عن قصة الفاتح العظيم أرطغرل واضع لبنة الدولة العثمانية، والمسلسل المشتق منه الغازي عثمان، مؤسس الدولة، ومسلسلات: كوت العمارة، والقائد بربروس، والسلطان عبد الحميد، وقد نجحت تلك الإنتاجات المتتابعة في تحقيق نجاحات عالمية مذهلة.
وفي خضم هذه الأمثلة لا يمكن تجاوز التجربة الإيرانية، التي أبدعت في إيجاد بدائل فنية لما كان سائدًا بعد وصول الملالي إلى الحكم، وأنا هنا أشيد بالتجارب وليس بالملالي.
إذن نحن في واقع ليس كله شرًّا، وليس كله خيرًّا، وعلى المؤمنين دون تشنُّج أن يُقِرُّوا الخير ويبدعوا في إيجاد بديل للشرِّ، على أن يكون قادرًا على جذب قبول الناس والانتشار بينهم، بكل طوائفهم وثقافاتهم، لكن هل باستطاعة المؤمنين أن يبدعوا؟
(3)
الحرية شرط الإبداع..
لا يمكن أن تبدع وأنت غير حر.
لكن هناك إبداعات أنجزها مسجونون ومعتقلون ومنفيون!!
صحيح، لكن أصحابها كانوا أحرارًا، أحرارًا رغم قيدهم، ولو لم يكونوا كذلك ما أوردهم الطغاة السجون، فهم في أنفسهم أحرار، لا يخضعون لأحد، ولا يتبعون إلا ما يؤمنون به، بغض النظر عن معتقدهم.
والمؤمن حر، لأنه – أو هكذا يجب أن يكون – تخلص من هوى نفسه، ومن الأصنام السياسية والاجتماعية والثقافية، تخلص من كل عبوديات البشر، وخضع فقط لخالق البشر.
ولذلك فإن المنافقين لا يُبدعون، وإنتاجاتهم محل سخرية الناس؛ لأنهم ببساطة ليسوا أحرارًا، رغم أنهم خارج السجون والمعتقلات، بل ربما في سُدَّة الحكم.
ثم لماذا يقترن الإبداع بسهر الليالي وكؤوس المشروبات وسُحُب التدخين؟
لماذا نقرن الإبداع بتجاوز المحددات الدينية والأخلاقية، لماذا عليك أن تكون من كفار قريش حتى تحسب على المبدعين؟!
صحيح أن الإبداع هو الخروج عن التقليد والمألوف، لكن ليقدم شيئًا أفضل، شيئًا محببًا إلى النفس، شيئًا يثير المشاعر، ويحدث عاصفة في العقل، وليس التمرد على قيم ما ارتضاها الإنسان لنفسه.
الجمال هو منتهى ما يسعى إليه الإبداع، والمؤمن الذي يسعى الدين لخلقه هو ذاك الذي يعيش الجمال ويستلذه ويستطعمه ولا يستطيع أن يعيش دونه.
المساواة والعدل والاحترام وغيرها هي قيم الجمال.
الطبيعة المأمورون بتأملها والسياحة فيها هي من الجمال.
حفظ الدماء، وكل الدماء حرام، هو قيمة من قيم الجمال.
تعمير الأرض والاستمتاع بها والسعي إلى الآخرة بما يستلزم ألا تظلم وألا تسرق هي قيم الجمال.
وبالطبع فإن من السذاجة أن ندعي أن الإبداع حكر على المؤمنين، كما أن من السذاجة ادعاء العكس.
(4)
نحن للأسف نعيش زمن التفاهة والتافهين، سواء في العالم كله، أو في منطقتنا، لذا فإننا بحاجة إلى إبداع الأحرار، إلى من يعبر عمَّا نمر به، إلى من يُشَخِّص بعمله الفني واقعنا، إلى من يطرح حلولًا ولو أجزاء من حلول، إلى من يمدنا بالجمال ونحن نحارب القبح.
وهذا نداء إلى الجميع، إلى جميع المبدعين بحق.
(5)
بوسع المؤمن أن يبدع وأن تكون سينماه هي سينما الحياة التي تعالج مشاكلنا وتعبر عنها..
هي السينما التي تعرض مشاكلنا، وقضايانا، وآلامنا، وأحلامنا.
هي ليست سينما التفاهة، وهي ليست بالضرورة السينما الجادة الكئيبة، فحتى الكوميديا الممتعة التي تروح عن النفس وتمتعها مطلوبة.
هي ليست “خطب جمعة”، لأن خطب الجمعة لها مكانها.
ليست دروسًا وعظية.
ليست حديثًا مباشرًا في الدين.
هي تحسن استخدام وتوظيف كل أدوات الفن لإنتاج ما يليق بعقول المشاهدين الذين تحترمهم.
صحيح فعلًا ما قاله علي عزت بيغوفيتش:
“إن الفن ابن الدين، فإذا أراد أن يظل حيًّا عليه أن يستقي من المصدر الذي جاء منه”.