(1)
كنت أسأل نفسي دائمًا: أي شعور عظيم يتملك هؤلاء الجنود المنتصرين العائدين إلى شوارع عاصمتهم، منخرطين في موكب عسكري مهيب، بملابسهم الملطخة بالدم، وهيئاتهم المُتعَبة، فيما الجماهير تهتف لهم، وترميهم بالورود، وتقلدهم الأوسمة؟ أي تكريم رفيع هذا الذي ينالونه بعد معركة كادوا أن يموتوا فيها؟ لكن مؤخرًا طرأ على بالي سؤال آخر: وماذا عن الذين ماتوا في أول المعركة، أو خلالها، ولم يشاهدوا نصرًا ولا فتحًا، كيف كان شعورهم؟
(2)
مدمنٌ أنا على مشاهدة أفلام المعارك التاريخية، ودومًا يثيرني هذا المشهد: الجنود الذين يتقدمون الصفوف حاملين سيوفهم أو بنادقهم أو حرابهم، هؤلاء في الأغلب سوف يموتون في الساعة الأولى من الحرب، إنهم واجهة الجيش، حين كانت المواجهة وجها لوجه، وهم بالتأكيد لن يروا ثمرة جهادهم، لن ينالوا تكريمًا، ولن يتمتعوا بنصر.
تُرى ما الذي كان يجول بخاطرهم؟ وأي مشاعر سادت نفوسهم حينذاك؟
في السنة الرابعة للبعثة أمر الخالق نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجهر بالدعوة التي كانت حتى تلك اللحظة سرية، فخرج إلى قومه في المسجد الحرام قائلًا: «قولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، تُفلِحوا»، فاجتمعت عليه قريش تريد أذيته، فاندفع الحارث بن أبي هالة مدافعًا عنه، فتكاثروا على الحارث حتى قتلوه، ليصبح أول رجل يستشهد في سبيل الله.
أما سُمَيَّة أم عمَّار، فقد عذبها أبو جهل تعذيبًا شديدًا، على الرغم من ضعفها وكبر سِنِّها، إلى أن طعنها برمح كان بيده، فاستُشهدت أمام زوجها وابنها.
الحارث وسمية وغيرهما ممن استشهدوا في بداية الدعوة: ماذا كان يدور في فكرهم، وعلى الكرة الأرضية كلها ليس غيرهم – بضعة أشخاص – يؤمنون برسالة نبي ابتُعث؟!
لقد استشهدوا ولم يروا عزًّا للإسلام ولا تمكينــــًا، لكنهم لم يترددوا، ولم تهزمهم نفوسهم ولا شياطينهم، ولم يتخلوا عما يعتقدون، رغم أن الأمر كان لا يزال مضطربًا، والمعركة لا تزال في بدايتها.
تخيل هذا الشعور الذي ربما راودهم! أن تحدثك نفسك أنك ربَّما على خطأ، أن الدعوة ربما تفشل، أن هذا كلَّه ربما يكون غير حقيقي، ورغم ذلك تثبت، وتخوض معركتك، وأنت واثق أنك منتهٍ لا محالة، وأنك لن تلحق بزمن الأوسمة، ولن يتصدر اسمك مواقع التواصل الاجتماعي، لكنك تصر، وتخوض معركتك حتى أنفاسك الأخيرة.
(3)
الأمر يتكرر الآن في عصرنا الحديث.
هذا الفلسطيني المقاوم، يفعل فعلته وهو مهدد إما بالقتل أو بالأسر ربما عشرين عامًا، وهو يعرف تمامًا أن تحرير فلسطين لن يكون في حياته، فنحن ما زلنا في بداية المعركة.
لن ينال أوسمة، ولن يُقلَّد منصبًا، وسيفقد أحلى سنوات عمره، لكنه يفعل.
حتى المسلم المعاصر، المتشبث بدينه في زمن يتزايد فيه الملحدون، وتكثر فيه الفتن، وتخلع النساء حجابهن، وتختلط الفتاوى، ويتزايد شيوخ السلاطين.
ما السحر في الأمر؟ أي قوة فولاذية تلك التي تدفعهم إلى معركة “خاسرة” بالمقاييس المادية – أو قل معركة لن يروا نهايتها؟!
بالطبع ليس سوى الإيمان، الإيمان بالمعتقد، أو الإيمان بالقضية، أو الإيمان بالوطن، المهم الإيمان الذي يتملَّك القلوب والعقول، ولا يقف عند حد الحناجر.
يا إلهي!
إن لديهم رغبة جارفة أن يكونوا على الطريق حين تنتهي أعمارهم، بغض النظر كم تبعد نهايته.
(4)
الأمر في زماننا ليس بسيطًا، فلنعترف بذلك.
فنحن نعيش زمن الفتن العاصفة، كل واحدة أقوى من أختها.
أيَّامَ النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة واضحة، لا أدَّعي أنها كانت أسهل، لكن الرؤية واضحة: أبيض وأسود، حق وباطل، أما الآن فكل شيء اختلط بكل شيء، مئة تيار، وكل تيار يدَّعي أن الحق معه، ويدعوك لأن تتبعه، وأن تسد أذنيك عن الآخرين.
كيف نحارب والزعماء إمَّا انهاروا أو غيروا بوصلتهم، والرفاق انقسموا فرقًا، يتبادلون الاتهامات والتخوين والسباب، والأقنعة المزركشة على رجال الفكر والثقافة سقطت، وكُشِفَ الكثير من الوجوه القبيحة، التي سلم لها كثيرون رقابهم، وساروا وراءها؟!
جيل كامل يدخل الفرن!
يُعَذَّب بالتيه!!
التضحيات مهما بلغت مقدور عليها؛ لأنها سنة الحياة، لا تُنال القيم العليا إلا بها، لكن المشكلة في هذا التيه، في الصورة التي يكسوها الضباب، في فكرة: «كيف للمرء أن يحارب ويموت وهو مطمئن أنه على الطريق؟».
(5)
ابحث عن أصل الأشياء تهدأ نفسُك وتستقر.
نحن نعبد الله.. القوة العظمى التي أوجدت هذا الوجود المذهل، بكواكبه ومجراته، بهذا العجب العجاب في جسم الإنسان نفسه، في أسنانه، في عقله، في خلاياه.
نحن نعبد الله عز وجل، الذي يستمع لعبيده دون وسطاء، وعلى قدر عظمته التي تؤمن بها ستُلفظ كل الدعاوى المجحفة التي يدعيها البعض.
اسأله الهدى… هذا حقك، فقد أوجدك تعالى في هذا الوجود، وأنت أعلنت إيمانك به.
لن يخلقك ويدعك، لكن عليك ألَّا تدع الخالق بدعوى التيه، وخرافات الفرق والأحزاب، لن يُضيعك الله، لكن لا تُضيعه أنت بحجة اختلاف الناس والشيوخ والدعاة.
هي معركة شخصية بحتة، ويوم القيامة لن تستطيع أن تتعذر بهذا الفريق أو ذاك، ولا بهذه الفتوى ولا تلك، ولا بالفوضى المتفشية، ولا بالفتن.
سمية كانت عجوزًا ضعيفة واجهت «أبا جهل»، القوة العظمى بمقياس زمانها.
سمية ربما لم تكن تتصور والرمح يخترقها أن الإسلام سيمتد من البقعة التي تُعذب عليها في صحراء مكة ليصل إلى ما وصل إليه.
سمية كانت قضيتها أن تنتصر هي، فالمعركة كما ذكرتُ شخصية.
خض معركتك بثبات، فإذا ما انتهى عمرك وكنت على الطريق فقد انتصرت.
هذا الثبات هو جوهر المسألة.
الأمر – على عكس ما تعتقد – واضح جدًّا.
{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا}
عجيب…!
{وما بدلوا تبديلًا}
هذا هو.. للمرة الألف.. “الثبات” على ما أنت عليه.
نعم، نراجع إيماننا، ونلفظ كل ما هو غريب عنه، وما اختلط بعادات أو مفاهيم ليست منه، لكن “أصل الأمر” واضح لا زيغ فيه.
لذا لا تعبأ بالآخرين، ولا تحملهم ذنب فرارك، ومسؤولية تقاعسك.
إذا بدل الآخرون لا تبدل أنت.
كن أنت الثائر الأخير.
كن أنت الفلسطيني الأخير.
كن أنت المؤمن الأخير.