(1)
أُنقِذ طفلٌ عمره خمسة أعوام من تحت الأنقاض في تركيا، بعد أن قضى ما يزيد عن مائة ساعة تحتها، سأله مراسل قناة تركية: ألم تشعر بالجوع كل هذه الساعات؟ فأجاب: “كل فترة كان يأتيني شخص يرتدي رداءً أبيضَ اللون، يُطعمني ويسقيني ثم يذهب”.
ترى أهم الملائكة؟
(2)
تغريدة كتبها أحدهم على تويتر لتثير عاصفة من التعليقات:
هل تصدقون هذه الهراءات؟
لماذا لا يتبادر إلى ذهنكم أن أحدهم مثلًا لقَّن الطفل ما يقول؟
معقول أنكم في هذا العصر ما زلتم تؤمنون بهذه الخرافات؟
دعكم من التفسير الديني للواقعة، إنها ظاهرة طبيعية تشهدها الأرض على مدى عمرها، لا يمكن تفسيرها بأنها عقاب إلهي على فسادنا، فالمنطق يقول: وما ذنب الطيبين؟ بل ما ذنب الأطفال؟
لكن أحدًا من أنصار هذا القول لا يفسر لنا كيف عاش هذا الطفل وكيف خرج سالمًا! ولا ذاك الطفل الرضيع، الذي لم يتجاوز عمره عشرة أيام، كيف وجده المنقذون حيًّا وقد قضى خمسة أيام – أي نصف عمره – تحت الأنقاض وحيدًا، وهو ومن في عمره بحاجة إلى وجبة من صدر أمه كل ساعتين، كيف لقوانين الطبيعة أن تشرح ذلك؟!
(3)
أيها السادة المعترضون على نظرتنا الدينية للحدث:
نحن نعتقد في الغيب، ونعتقد في الملائكة التي هي شرط الإيمان.
صحيح لا يمكن أن نفسر تلك الواقعة أو غيرها على هذا النحو، فنقول إن الملائكة أنقذت هذين الطفلين مثلًا، ولكن لا نستبعدها، ولا ننكر إمكانية حدوث ذلك.
نحن نؤمن بأن الملائكة من خلق الله، ولله أن يأمر من يشاء من خلقه بأن يفعل ما يريد.
لماذا هذان الطفلان بالذات؟
ولماذا لا؟
ولماذا يأذن الله بكل هذا الألم للناس؟
ولماذا لا؟
عندما تؤمن بأنك مخلوق من تراب، وقد نفخ الله تعالى فيك الروح، فلا يمكن أن تحاسب ربك: لماذا فعلت هذا؟! ولماذا فعلت ذلك؟! تعالى الله عن أن نعترض على أقداره، وعلى تدبيره.
كم من حدث مر في حياتنا ولم نفهم لغزه إلا بعد سنين طويلة!
طفلك الذي أنجبته يثير غضبك إذا ما اعترض على قرارك، وهو مجرد طفلك، أنت لم تخلقه، فسبحان ربي الخالق، هل نحاسبه ونعترض على أقداره؟
شخصيا – ولا أقول: إن هذا واجب على الآخرين – لا أومن مثلًا بكل تفسيرات فرض الصلاة والحجاب والزكاة وغيرها، وإنما أسأل نفسي سؤالًا واحدًا: هل أمر ربي بذلك حقًّا؟ فإذا تأكد لي فعلت.
أما أن تحدثني عن مزايا الركوع والسجود الرياضية، وأن الصيام يفيد صحة البدن، كل هذه التفسيرات لا تعني لي شيئًا، فقط: هل أمرنا الله بها؟ نعم، إذن سمعًا وطاعة.
إذا أخبرنا الله أنه عز وجل خلق الملائكة، فقد فعل، وهو وحده المتصرف في هذا الملكوت، سواء فهمنا الحكمة أم لم نفهمها.
بل الحكمة هنا أن نسمع ونطيع.
(4)
أنت لا تؤمن بذلك وتعتبرها خرافات أتى بها الأولون من سكان الصحراء، من حقك، وكل منا يتحمل تبعات ما يؤمن به، لكن ليس من حقك أن تمنعني من تفسير ما يجري وفق آيات ربي.
أنت حر فيما تعتقد ولا تفرضه علي، وأنا حر فيما أعتقد ولا أفرضه عليك.
لا يمكن أن أجري أموري اليومية وأفسرها بحسب ما أومن به، فإذا ما وقعت كارثة استثنائية، لا أتعظ بها، ولا أفهمها وفق نفس الإيمان.
العلم نفسه الذي قطع أشواطًا بعيدة يقف عاجزًا في كثير من الحالات عن التفسير.
صحيح – كما قلت – ليس لي الجزم بتفسير أمر ما، فأدعي أن ذلك عقاب من الله على الفاسدين، خصوصا وأن زلزال تركيا مثلا وقع في مناطق هي الأكثر تدينًا، ليس لي ذلك.
نعم حدثنا القرآن عن البلاء الذي أصاب الفاسدين، لكنه القرآن، كلام الله الذي خلق الخلق، والذي أنزل البلاء، فليس لنا إلا التسليم بما قال عز وجل، لكن ليس لنا بأنفسنا أن نسقط كل آية على كل حدث بعينه.
(5)
يقع الزلزال في تركيا وسوريا، تنهار البيوت، وتنهار معها أرواحنا، مزيج من الحزن والخوف، الحزن على الضحايا، على أهالينا وأحبابنا، الذين تجمعنا معهم أواصر القرابة أو الإنسانية، والخوف مما يمكن أن يحدث في العالم الذي بدا كأنه يتهاوى.
المشاهد مرعبة، البنايات التي تسقط لم تكن قديمة متصدعة، وإنما بعضها حديث البناء.
نسأل أنفسنا ماذا إن كنا مكانهم؟ أهي علامات الساعة؟ وما تلك الظواهر الغريبة التي ادعى البعض مشاهدتها تواكب الزلزال؟ هل هي القيامة؟
قال أحدهم: ما بدأ الزلزال حتى بدأ جاري الملحد بالدعاء إلى الله بالنجاة.
لقد تحركت فطرته بطريقة تلقائية، ونحن كذلك، قد نكون غارقين في ذنوبنا، لكن هذا الحدث يصدمنا مثل الصدمات التي يحدثها الطبيب لقلب مريضه، فكيف لا تريد مني أن أتجاوب مع هذه الصدمة.
المسألة بسيطة جدًّا:
نحن نتفكر في الحدث، ونتدبر آيات الله هربًا من أن نكون ضمن الآخرين الذين {لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون}.
قد يكون واردًا في حياتنا اليومية المزدحمة أن نغفل عن التدبر، لكن أن يمر حدث مثل هذا ولا يحرك فينا شيئًا، لا يصدمنا، ولا يردعنا، ولا يذكرنا بالآخرة!
أن يدعنا ولا نخاف من مصيرنا، ولا نبحث هل أغضبنا الله؟ هل بالغ الظالمون في ظلمهم؟ هل بالغ الصامتون في صمتهم؟
فتلك هي المصيبة الحقيقية.
ثم لماذا نحصر ذنوبنا في فعل كذا أو ترك كذا؟!
صمتنا عن انتهاكات المظلومين في السجون ألا يستعدي غضبًا من الرحمن علينا؟!
حرق الناس وسلبهم ممتلكاتهم ألا يستعدي غضبًا من الرحمن؟!
أن نصافح ونصادق الذين سلبونا مقدساتنا ألا يستعدي غضبًا من الرحمن؟!
(6)
اهتزت الأرض، ويقول العلماء الذين لا ننكر فضلهم: إنها قد تهتز مرة أخرى، وعلى البناة أن يضعوا في حسبانهم هذا الأمر ليؤسسوا بناياتهم على قواعد تسمح بامتصاص ضربات الزلازل.
ما لا يقوله العلماء وليس في اختصاصهم: أن علينا أن نهيئ لأنفسنا أطواق النجاة، حتى إذا وقعت الواقعة مرة أخرى نجونا.
أطواق نجاة تضمن سلامة أروحنا وحسن مصيرها، سواء بقيت أجسادنا أم هلكت.
سنفسر الأمر بالدين دون شطط ودون إسقاطات ودون محاكمة الآخرين.
الأمر جلل.
المرة التي نخشاها لن تهتز فيها الطائرة أو البناية أو الجسر فحسب.. وإنما الأرض كلها.
الأمر مخيف.. صحيح؟
ومن ثم فإن شاغلنا الشاغل الآن هو أن نبحث عن نوح قبل أن نغرق.
ونوح عليه السلام غائب..
لكن سفينته هنا..
لمن شاء أن يلحق بها..
ولمن لا يكترث بالساخرين.