(1)
لما حل الشهر الثاني من عام 2023 دخلت عامي السابع والستين، فانتهزت الفرصة لأردد مقولة الكبار: “ألا ليت الشباب يعود يومًا”، ولكن فكرت ماذا لو عاد فعلًا، ماذا أنا فاعل، فسرحت في معان كثيرة.
(2)
لو عاد الشباب يومًا..
لمضيت أدرب نفسي ليل نهار على التطبيق الفعلي لشهادة أن لا إله إلا الله!
ورثت الشهادة من والديَّ، فلما كبرت جددتُ إيماني، وأدركت “نظريًّا” أن الآلهة التي أنفي عبادتي لها ليست تلك المصنوعة من العجوة، بحسب الأفلام الدينية، إنما هي أكثر من ذلك بكثير، إنها تحيط بنا في كل مكان، بل إنها بداخلنا أحيانًا.
أصنام من كل نوع، ومن كل لون.
نظريًّا نقر بأن لا إله إلا الله، لكن في حياتنا اليومية الأمر مختلف.
لو كنت واحدًا من العلماء لانصرفت إلى هذه القضية، التي تبدو لي الآن هي الأهم، وقد أغفلناها، إنها تستحق أن تقضي عمرك كله في فهمها وتطبيقها، وبها إذا قمت بتطبيقها تستقيم حياتك كلها، وتشعر بالمعنى الحقيقي للسعادة.
لا إله إلا الله.
لا نفسك، ولا رغباتك، ولا أموالك، ولا ممتلكاتك، ولا زعيمك، ولا حزبك، ولا بلدك، ولا مديرك، ولا رجل الأمن، ولا من شابههم من الآلهة التي قد تُعبد.
هؤلاء لا تخاف منهم، ولا ترجوهم، ولا تدعوهم، ولا تتعلق بهم.
لا إله إلا الله.
تغادر لسانك، لتصبح فعلًا يوميًّا، بل لحظيًّا أحيانًا، مهما كلفك ذلك.
الأمر يستحق فعلًا المكابدة.
إنها مغامرة خطيرة ألا تفعل جوارحك ما يشهد به لسانك، لتكتشف تلك الحقيقة المؤلمة في يوم الحسرة.
(3)
لو عاد الشباب يومًا..
لما وضعت أي اعتبار لرأي الناس فيما أفعله، مديحهم أو سبهم أو تقييمهم لشخصي.
نعم أنصت باهتمام لكل رأي جاد إيجابي أو سلبي، وأفكر فيه باهتمام، ثم في النهاية أتخذ ما أراه.
أحرر نفسي وخطواتي وحركاتي وسكناتي من هذا القيد المؤذي.
الذي لا يفعل ذلك، ولا يدرك خطورة الأمر في اللحظة المناسبة، يكتشف في عمر متقدم المفاجأة.
إنه يشعر بغربة شديدة عن ذاته، عمَّن حوله، عن المكان الذي يُحيط به، عن كل أحواله.
فهو الآن ليس “هو” الحقيقي، ليس نفسه، وإنما هو في الواقع “هم”.
ذلك أن ما أصبح عليه إنما هو نتاج تصورات الآخرين التي أطاعها ونفذها بإخلاص، فلما كبر وانفض الجميع بفعل الزمن من حوله أدرك الأمر متأخرًا.
إنها مغامرة خطيرة أن تعيش حياتك أسيرًا لآراء الناس وتصوراتهم وتعليقاتهم، تخشى غضبهم، ويسعدك مديحهم، وتقود حياتك وتتخذ قرارتك وفقًا لذلك.
(4)
لو عاد الشباب يومًا..
ما تلكأت في اتخاذ قرار بدعوى أن الظروف غير مناسبة.
العمر الذي نقضيه على هذه الأرض لا يتوفَّر فيه خاصية “الظروف المثالية”، دائمًا سنجد عقباتٍ ومشاكلَ ووضعًا غير مكتمل، وانتظارُ أن يصبح مكتملًا هو العبث.
يجب أن تقوم حساباتنا على الظروف المتاحة لا الظروف المثالية.
يقولون لك: لا تتزوج حتى يكون لديك شقة، بأثاثها، ورصيد بنكي، يسمح لك بعرس تفتخر فيه، وتدعو فيه الداني والقاصي، ليخرج الجميع ناقدًا لكل شيء.
نحن نُعقِّد حياتنا تعقيدًا، ثم ندعي أن الظروف لا تسمح.
إذا كان لديك عمل يدر عليك دخلًا معقولًا، تزوج ولو في غرفة مؤجرة، ثم رويدًا رويدًا يتحسن الحال.
إذا وجدت الشاب الذي تتمنينه ويفهمك، وإذا وجدت الفتاة التي تحررت من عقلية العادات والتقاليد السلبية، ولديكما مصدر للدخل، فلا تضيعوا حياتكما انتظارًا لما يسمى باللحظة المناسبة، والتي هي في الحقيقة لظروف المثالية لا تأتي أبدًا.
عليك بالظروف الممكنة.
وقس ذلك على كل أمورك.
إنها مغامرة خطيرة أن تقضي حياتك في الانتظار، فيما هي تتسرب من بين يديك، استمتع بالمتاح، فقد لا يكون متاحًا في الغد.
(5)
لو عاد الشباب يومًا..
لعشت كما يعيش كبار السن! إنهم لا يبالون بأمر، ليسوا حريصين على أن يثبتوا للآخرين من هم، ولا أن يدافعوا عن أنفسهم.
خلصوا أنفسهم من صداع منافسة الآخرين، يعيشون اللحظة، ويتجنبون الغضب لكل صغيرة وكبيرة.
أرهقهم الكلام فلاذوا إلى الصمت، أتعبهم الاختلاط فلجأوا إلى العزلة.
ينامون بعمق، ويضحكون من قلوبهم، ويعيشون اللحظة التي أدركوا متأخرا أنها قد تكون آخر لحظة
لقد تخلصوا من مشاعر الغل والحقد، يريدون أن يعيشوا ما تبقى من عمرهم في سلام.
إنها مغامرة خطيرة أن تكتشف أنك قضيت عمرك واستنفدت قواك في معارك وهمية، أوقعت بك الأذى، حتى لو خرجت منها منتصرًا.
(6)
لو عاد الشباب يومًا..
لغادرت بلادي عقب إتمامي الثانوية العامة، لسافرت إلى العالم الآخر، أدرس ما أحب، وأعمل لأنفق على نفسي.
لن أهتم بما إذا كانت دراستي في جامعة أو معهد، سأحدد ذلك بحسب رغبتي ما إذا كانت أكاديمية أو تنفيذية على الأرض.
وفي عطلاتي الدراسية سأنفق ما ادخرت لأسافر إلى بلد جديد، وأكتشف عالمًا جديدًا وأناسًا مختلفين عني.
لن أسافر بغية المتعة وحسب، ولكن لأضيف إلى شخصيتي وأحذف منها.
كل الذين يسافرون يدركون هذه الحقيقة، أنت تعود من كل رحلة شخصًا مختلفًا، هذا إذا خُضْتَ مغامراتك وتجاربك، ولم تكتف بمشاهدة المتاحف والبنايات والغابات.
إذا اتبعت القاعدة القرآنية {سيروا في الأرض فانظروا}
ستدرك وحالك هكذا أنك كلما بعدت اقتربت أكثر من هويتك، بشرط أن تكون قد أعملت عقلك في سفرك.
إنها مغامرة خطيرة أن تموت ولم تغادر وطنك.
لم تنم في الأزقَّة والشوارع، وتعمل في المطاعم والمصانع، وتَرَ الآخرين وتحاورهم.
(7)
لو عاد الشباب يومًا..
لن أمتنع عن الإقدام على عمل أو تجربة أحبها مخافة الوقوع في أخطاء.
سأدرك أنها طبيعة بشرية، وأن كل الناجحين أخطأوا، وأن الخطأ الأكبر هو ألا تقدم على ما تريد مخافة أن تخطئ.
والداي ووالدك ووالداهم أخطأوا، لكنهم تجاوزوا الخطأ، ولم يندموا عليه، وواصلوا حتى وصلنا نحن إلى الدنيا.
لا أندم، بل أخطئ وأخطئ، وأتعلم المزيد.
أسقط وأقف من جديد، مثل الطفل وهو يتعلم المشي، أواصل طريقي مبتسمًا فيما جراحي لم تترك إلا ندبات كأنها أوسمة المعارك.
إنها مغامرة خطيرة أن تلجأ إلى السكون مخافة الوقوع في الخطأ أو الفشل، فيما العالم كله يتحرك، حتى خلاياك!
(8)
لو عاد الشباب يومًا..
سأضع ما قاله لي أحدهم يوما في بداية غربتي شاكيًا ابنه نصب عيني:
“إني أقع أحيانًا في الحرام، لكن أعود تائبا مرة أخرى، ذلك أن البوصلة التي زرعها والدي داخلي تعود فتدلني على الطريق بطريقة تلقائية، غير أني لا أستطيع أن أفعل ذلك مع أبني، أن أزرع فيه نفس البوصلة”.
البوصلة تنجيك إذا ما انحرفت عن الطريق، إنها “GPS” الروح، ترسل لك “notifications” عد إلى مسارك.
التيه في المدن والشوارع والحواري لا بأس به، يمكن دومًا أن نكرر المحاولة، وتنجح.
إنها مغامرة خطيرة أن تعيش في الدنيا دون بوصلة، فالتيه في الحياة الدنيا خطير، فليس لك إلا فرصة واحدة.