(1)
كانت أختي تدرس في القاهرة، على بُعد ما يزيد عن مائة كيلومتر من السويس حيث نعيش، تعود فتحكي عن مشاق الغربة، وترد أمي عن لوعة الغياب، ثم أخوض أول هجرة لي في حياتي، طفلاً متجهًا مع أسرته إلى طنطا بعد هزيمة يونيو، ثم يزورنا خالي حسين هناك؛ ليودعنا مهاجرًا إلى أستراليا، ليكون ذلك بمثابة افتتاحية لغربة تجاوزت الخمسة والثلاثين عامًا، تعلَّمت خلالها دروسًا مهمة، ومكلفة.
(2)
التيه في الغربة هو مرحلة أولى إلزامية، ولا أظن أنه يمكنك أن تتخطاها قبل أن تواصل حياتك في المهجر، والتيه -بلا شك- مخيف، أنت هنا بلا سند، بلا كتف تتكئ عليه، بلا صاحب تشاوره، أو قريب تعتمد عليه، بلا حبيب تُسِر إليه بما أنت تعانيه.
تائه لا تعرف من أين تبدأ، ولا إلى أين تتجه، ولا كيف تتعامل مع واقع مختلف معك كليًّا: عقائديًّا وفكريًّا وروحيًّا.
ينصحك السابقون بما يجب أن تفعله، وما يجب أن تتجنبه، ربما هم مخلصون، لكنهم إنما يسردون تجاربهم الخاصة، وقد نسوا أن لكل تجربة خصوصيتها، ومن ثم لا مجال لأن تكون نتائج خبراتهم قواعد عامة في الغربة، تصلح لأي قادم، من أي جهة، وفي أي زمن.
يُنصت المرء لما يقولون، يتفكَّر فيه، لكن لا يتعامل معه على أنه حقيقة كونية لا تقبل الشك أو النقاش.
التيه مرحلة لها خصوصيتها، وهي تحدِّد مستقبلك في هذا البلد، تحتاج فيها أعصابًا قوية، لا تهتز عند أي صدمة، تقبل بالعثرات، ولا تستعجل النتيجة، وتُحسِن التصرف، وتُجيد الصبر.
هذه مرحلة تتطلَّب منك تحديد هدفك بدقة، فإذا كانت هجرتك مؤقَّتة، ولا أنصح بها، فإن الهدف والوسيلة يختلفان عن الهجرة الدائمة.
الهجرة الدائمة تستلزم -مثلاً- تعلُّم لغة البلاد، وإجادتها، ومعرفة نظامها السياسي، وعادات أهلها، وتقاليدهم.
التيه مخيف صحيح، لكنه يدفعك لاكتشاف كل ما حولك، وهو -أمر في حد ذاته- متعة؛ فأنت تخوض تجارب متعددة، تنجح في بعضها، وعندما تفشل في أخرى، لك ألف عذر، فأنت حديث العهد بالغربة.
مرحلة التيه.. صعبة جدًّا لكنها لذيذة جدًّا!
(3)
الغربة تعني “البهدلة”، أن تحاول أن تولد مرة أخرى، إنسان جديد في أرض جديدة، والميلاد يحتاج مخاضًا، والمخاض مؤلم، مؤلم للغاية.
الغربة تكتشف فيها نفسك أولاً، قبل أن تكتشف هذا الآخر، وكأنك سافرت آلاف الكيلومترات؛ لتكتشف ذاتك التي صاحبتك في بلدك ولم تعرفها جيدًا.
في الغربة تكتشف ضعفك، وتختبر أخلاقك ومبادئك التي تدَّعيها، وما إذا كنت ستلجأ إلى أعذار تبرِّر لك الكذب والسرقة وغيرهما، وبالطبع ما إذا كنت ستُطلق عليهما أسماء أخرى، وتعتبر أن مال الغريب -الذي لا يدين بدينك- مباح لك.
الغربة تكشف لك مكامن قوتك، التي لم تكن تتخيل أبدًا أن هذه الملكات لديك، لم تكن تتصور أنك بهذه القوة، وأنك قادر على مواجهة هذه العواصف وهذه الأمواج الهادرة وحدك، دون “بابا وماما”، بل حتى دون أصدقاء العمر.
الغربة تكشف أوهامك، حين ظننت أنك ستجد فيها مصباح علاء الدين، وكل ما عليك هو أن تمسح عليه، فيخرج لك المارد ليجيب طلباتك، لتكتشف أنك مطالَب بالبحث عن أقرب متجر يبيع بأسعار رخيصة؛ لتتمكن من تلبية احتياجاتك.
الغربة تكشف لك أنك جاهز لأداء أعمال ما كنت تتصور أن تقوم بها، وما كنت مستعدًا أبدًا أن تمارسها في بلادك.
الغربة فاضحة، لا تترك عيبًا فيك إلا وأظهرته، ولا عيبًا في رفاقك إلا وفضحته، ولا قناعًا كنت ترتديه إلا وسقط.
الغربة مثل الربيع العربي تُسقط كل الأقنعة!
(4)
المغتربون لأسباب سياسية حالهم مختلف.
إنهم هاربون من المقصلة.
لم يختاروا الهجرة، ولكن أُجبروا عليها.
هم لم يسعوا إلى الغربة، لم يتمنوها، لم يخطِّطوا لها، وإنما دُفعوا إليها دفعًا، لم يكن لهم خيار آخر، ربما المرء منهم لم يكن زعيمًا سياسيًّا ولا حتى ناشطًا، لكن الأجهزة الغبية تصنفه على أنه خطير، وأنه مخيَّر بين أن يُمضي زهرة شبابه وراء القضبان، وبين أن يهاجر، هكذا في يوم وليلة يترك كل شيء ويهرب، وهو لم يحمل سلاحًا، لكنه فقط قال: لا، نعم فقط قلت: لا.
هذا الشعور مؤلم لصاحبه؛ فهو يعيش تجربة الغربة مرغمًا وليس برضاه.
يتألم في كل لحظة، يتعامل مع كل عقبة على أنها عقابًا على فعل لم يفعله، وجريمة لم يرتكبها.
مطلوب منه بين يوم وليلة أن يحدِّد هدفه ووسائله في هذا العالم الجديد الغريب، يظل قلبه معلقًا ببلاده، آملاً أن يعود إليها قريبًا، وهذا الأمل يدفعه ألا يؤسس لبناء ولا لحلم ولا لحياة جديدة؛ فهو آمل أن يعود قريبًا.
قليلون الذين يعتبرون أن ما وقع قد وقع، وعليهم فتح صفحة جديدة، أن يتوقفوا عن النظر إلى الماضي، ألا يحاربوا المستقبل بالماضي، وهو أمر صعب ليس بالهين.
المهاجر السياسي يعاني الأمرَّين، لكنه يباهي بأن بعثته في الغربة أسمى من الآخرين الذين أتوا للمال -وهو حق مشروع، فيما هو أتى هربًا من الزنزانة وتوقًا إلى الحرية.
المهاجر السياسي العدو أمامه والبحر من ورائه!
(5)
نعم هنا في الغربة تتمتع بالحرية.
تنام في بيتك وأنت واثق أن زوَّار الفجر لن يأتوا طالما لم ترتكب جريمة، وإن حدث فسوف تُعامَل معاملة الإنسان، وسيكون هناك محامٍ يدافع عنك، ولن يتم القبض على هذا المحامي نفسه كما يحدث في بلادك.
الحرية ليست فقط فيما يخص السياسة، ولكن في الحياة بصفة عامة.
أنت حر فيما تفعله، ما دمت لم تؤذِ أحدًا.
لن يسألك أحد: لماذا تفعل ما تفعل، ولن ينظر إليك نظرة عدائية.
وبالتأكد نستثني العنصرية الجديدة.
أنت حر في أن ترتدي ما شئت، وأن تأكل ما شئت، في أي وقت شئت.
أنت حر في أن تعتقد ما شئت، وتفكِّر فيما شئت.
تخيل أنك تستطيع السفر في أي وقت، ولن يسألك ضابط الجوازات: لماذا تتجه إلى هذا البلد؟ وعندما تعود لن يسألك: ماذا فعلت هناك؟
تخيل… أنت حر
(6)
لوعة الغربة، وألم المعاناة اليومية، والشوق والحنين للبلاد وأهلها، يَحولون دون رؤية واقع المهجر وقراءته، والاستفادة منه.
وهذا ما يفوت الكثيرين.
عِش عالمك الجديد، وأخلِص له، ولا تجِد حرجًا في ذلك.
الإخلاص لبلد المهجر ليس خيانة لوطنك الأم.
المجتمع الجديد يمنحك الكثير، وعليك أن تردَّ له ما استطعت.
اهدم خيمتك، وابن بيتك؛ فقد جئت لتعيش.
هل تعرف ماذا يعني أن تعيش؟!
(7)
أيها المهاجر، هل وجدتَ ما كنتَ ترجوه؟
ربما.. وربما استبدلت ما كنت ترجوه بأمنيات أخرى.
وتعلمت أن لكل اختيار ثمنه.
البقاء في بلدك له ثمن.
والرحيل له ثمن.
وعليك أن تحدِّد أي ثمن يمكن أن تتحمله.