(1)
منذ زمن قلت لنفسي: لا تدعْ حكاية تمرُّ بك إلا واستخلصت العِبر منها.
مؤمن أنا كغيري بأنه لا شيء في هذا الكون صدفة، كل شيء بقدَر وبحكمة، فكيف أشيح بوجهي عن أمر يحدث أمامي، ولا أهتم به، ولا أستخلص منه الحكمة، بل الحكم؟
فما بالك لو أن هذا الأمر يخص صلب عقيدتي؟!
منذ السابع من أكتوبر ونحن بين فرحٍ لانتصارات وحزنٍ على خسارات، خصوصًا البشرية منها، ضربة تلو الضربة تطرق أدمغتنا؛ حتى بات كلٌّ منَّا يشعر أنه بعد غزة شخص مختلف عما كان عليه قبلها.
(2)
كيف فعلت المقاومة ما فعلت؟
كيف لها أن تخدع وتتغلَّب على واحد من أقوى جيوش العالم؟!
بل كيف لها أن تستمر قرابة أربعة أشهر بينما جيوش عربية مدججة بالأسلحة لم تفعل؟!
“لا مستحيل” هو ما تؤمن به المقاومة، غير أن الأمر يحتاج إلى تفكير طويل، وصبر ومثابرة وإرادة فولاذية.
هذه الأدوات هي التي يجب أن تسأل نفسك إن كنت تملكها، قبل أن تتوقف عن العمل لتحقيق حلمك وتصرخ قائلاً: “إن تحقيق هذا مستحيل”.
لقد ثبت أن كلُّ شيء ممكن، شريطة أن تمتلك هذه الأدوات، الفكر، والصبر، والإرادة، والمثابرة.
هؤلاء المحاصَرون لسنوات طويلة، المحرومون من إمدادات منتظمة من الماء والغذاء، الممنوعون من السفر، نجحوا في بناء قوَّاتهم، وأطلقوا فكرتهم واضحة: “لا شيء مستحيل”.
(3)
لا تنتظر الكمال حتى تبدأ.
أكاد أجزم أنهم كانوا غير راضين عن كلِّ ما اتخذوه من استعدادات حين بدأوا، لكن هناك وقت يجب أن تتوقَّف فيه عن البحث عن الكمال وتباشر مشروعك.
﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾.. هو المطلوب أن تؤمِّنَه لتبدأ تحقيق حُلمك الذي تسعى إليه.
أما الأسباب المثالية لتحقيق الحُلم فقد تقضي عمرك دون أن تنجح في تأمينها.
ثم إن نجاحك مرتبط بزمن، فما تحققه في الأربعينيات من عمرك، لن تستمتع بلذته كما لو حققته في الثلاثينيات، وبالتأكيد في كلٍّ خير.
لذلك تسلَّح بما تستطيع؛ لتبدأ في الوقت الذي يناسبك؛ لتحقِّق ما تتمناه.
(4)
ليس ضربة حظٍّ أبدًا.
ما حقَّقته المقاومة ليس ضربة حظ، كان يمكن أن يكون يوم السابع من أكتوبر انتصارًا في موقعةٍ وانتهت، لكن المقاومة مستمرة، وبشهادة أعدائها وأعدائنا ما زالت عسكريًّا تحقِّق انتصاراتها، وهو ما يوكد أن ما حدث ليس ضربة حظٍّ، وإنما تراكم من الفعل.
فعل ولو صغير كل يوم، كل ساعة، وربما كل دقيقة، وقديما قالوا لا تحقرن صغيرة إنما الجبال من الحصى.
الأمر لا يتعلَّق فقط بالإنجازات العسكرية، وإنما بالحالة الإيمانية كذلك.
هؤلاء الذين نشاهدهم على شاشاتنا يصرِّون على السجود وقد أصابتهم القذيفة وباتوا في اللحظات الأخيرة من عمرهم، أو الذين يحتسبون الأمر عند خالقهم وهم يودِّعون أعزَّ أحبابهم، هؤلاء وغيرهم لم يمتلكوا هذا الإيمان هكذا فجأة، وإنما هو حصاد ما فعلوه على مدى طويل، بصبر وكد ومثابرة.
أنت -الآن- حصاد ما فعلت في الماضي، وإن رغبت أن تموت في صورة أفضل فعليك بفضيلة التراكم، افعل كلَّ يوم ما في استطاعتك، تقدَّم خطوة، اصبر، ولا تيأس.
نعجب نحن بالأنفاق التي أرهقت العدو، لكن ترى كم يومًا استلزم حفرها؟ كم شهيدًا في أثناء الحفر؟
هو التراكم والله.
(5)
شاهدت فيديو لشاب مصري يتحدث بعفوية شديدة، ويعيد المسائل كلَّها إلى نصابها، وأن كل ما حقَّقته المقاومة من انتصارات عسكرية لا يخضع لأي حساب، وأن الأمر كلَّه بسبب “العلاقة”، قاصدًا العلاقة مع الله تعالى.
لقد أخذوا بكل الأسباب التي في وسعهم، والانتصارات هي أشبه بمعجزات كنَّا نقرأ عنها في زمن السابقين، وهي إنما بفضل الله تعالى.
أعمى من لا يستطيع أن يفهم المسألة على حقيقتها، ضالٌّ من يعتقد أنه هو من “رمى”، ذكيٌّ من حالف من لا حول ولا قوة إلا به.
يهجم الجنود على المنزل، يأسرون ربَّ البيت، يوصي طفله -وهو مكبَّل مُقاد مع الأعداء- ألا ينسى التسبيح، هذا الذي لا جهد فيه إلا تحريك القلب واللسان، لكنه يجعلك في علاقة متصلة مع ربِّ البشر، فإذا منحك -عزَّ وجلَّ- رضاه فسوف ينصرك بطريقته تعالى، وليس بطريقتك.
دروس غزة لا تنتهي والحكيم هو من نال حكمها.