علامة استفهام 6: ماذا فعلت بك المهنة؟
(1)
باب ما جاء في الحب
تبدأ قصص الحب بنظرة، ثم تنتهي أحياناً في محاكم الطلاق، الإنسان بطبيعته -فيما يبدو- غير واقعي، أو هو كائن متطرف، إذا أحب أحب بشراسة حتى ينزه محبوبه عن أي نقص، عن أي نقص ولو كان صوتاً يصدره وهو نائم، فينقلب الإعجاب إلى الضد، إلى الضد تماماً وكأنه تعرض للخديعة، ونسي ما ارتكبه هو من جرم حين رأى وجهاً واحداً مُشِعًّا، وتغافل عن الظلال.
(2)
باب ما جاء في الأمل
تتعلق بأمر، تظن أنه إما هو وإما الموت، لا نجاة في الحياة إلا بهذا الأمل، تسعى إليه حثيثاً، أحياناً يبدو لك وكأنه سراب “يحسبه الظمآن ماء”، تكرر المحاولة، ها أنت ذا -هذه المرة- قد أوشكت أن تصل، اشدد الهمة، اكتم أنفاسك، تحمل حجارة تدمي قدميك، لا بأس ببعض السهر، لا بأس ببعض الخسارات، الانتصارات القادمة ستعوض كل ما فقدته، تصل، تخوض فيه رويداً رويداً، ثم فجأة تغوص فيه تماماً، يتملكك ويتحكم فيك وفي عائلتك، لم تعد تعرف أأنت تزاول هوايتك أم مهنتك أم الاثنتين.
تتذكر صباك ولم يكن لك من أمل إلا أن تكون كاتباً صحفياً، حتى حرفة الصورة نلتها لاحقاً، الإذاعة المدرسية، ومجلات الحائط في الجامعة، ومشاغباتك علمتك أن تدفع، لذا كان مدهشاً أنك ستكتب ويدفعون لك، قلت لعصام في أول الأمر، كانت أمنيتي أن أكتب للعالم عما يهمني دون شرط أو قيد، فكيف سيكون شعوري وأنا أتلقى عليه مالاً، ضحك كثيراً فرّج الله عنه سجنه، مكتفياً بالقول إنها ضرورات الحياة.
(3)
باب ما جاء في الندم
نقع في الحب من أول نظرة أو من عاشر نظرة، ليس ذلك هو المهم، المهم بعد أن تقترب من المحبوب وتحيا معه، فتكتشف إما أنك أخطأت في اختيارك، وإما أنك أصبت، وإما أن الأمر لا هذا ولا ذاك، فقد أصبت ولكن ليس الأمر وردياً كما كنت تعتقد، وأن المحبوب تعيبه بعض العيوب، فهل تندم؟
كنت أدرك أن في مهنتي أناساً من كل الانتماءات الفكرية، لكن رهاني كان على السلاح الوحيد الذي يمتلكونه، ومن ثم فإن المبارزة ستكون هكذا بالفكر والكلمة، لكنني اكتشفت أن المبارزة تتم بكل الأسلحة الممكنة، المسموح بها وغير المسموح، المهم أن توجع الآخر، لا أن تثبت له صحة وجهة نظرك، ويا حبذا لو أوجعته في لقمة عيشه.
أما الذي يتفق معك فقرّبه إليك، حتى ولو كانت موهبته متواضعة، وإذا كنت في المؤسسة سيد القوم فقرّبه إليك، واستبعد الآخر الأكثر كفاءة والمختلف معك فكرياً، أو مذهبياً، أو قومية.
المنطق؟ ماذا تقصد؟ هذا الأمر ليس مطروحاً، بل بوسعك أن تكذب، نعم أن تكذب، “فنحن في معركة وعلينا أن ننتصر”، كما سمعتها مرة. لا بأس أن تحدّث الناس عن الليبرالية، لكن لا بأس بقمع الرأي الآخر، أو أن تحدّثهم عن الدين، ثم تكذب وتخون، وتستبيح ساعات العمل في أعمالك الخاصة.
لا بأس أن تخرج على الناس في أبهى حللك، ملاكاً طاهراً، وما إن تطفأ أنوار الاستوديوهات حتى يخرج منك وجهك الآخر، مع زملائك وزميلاتك.
نعم من الطبيعي أن يكون بك عيوب، الأصل في الإنسان أنه غير مكتمل، لكن ثمة عيب لا يحتمل، ثمة عيب لا يحتمل، ورغم ذلك فإنك لا تندم.
(4)
باب ما جاء في الشهرة
لها بعدان، أفقي ورأسي، يعرفك عدد أكبر، ويعرفونك بحجم أكبر، في الأغلب يكون المتلقي هو السبب، هذه المبالغة في التقدير والاحتفاء، أنت أيضاً تتحمل المسؤولية بادعائك ما ليس بك، المشكلة لا تقف هنا، المشكلة أنك تصدّق هذه الصورة المزيفة.
فجأة يتوقف لك في الطريق بسيارته من لم يفعلها من قبل، لكن الآن الأمر اختلف، بتَّ شخصاً “مشهوراً”، أو يعتذر لك آخر عن سوء التعامل في مؤسسة رسمية لأنه لم يكن يعرف من أنت، وي أنت تحترم شهرتي إذن لا تحترم إنسانيتي.
في هذه المهنة يلعب المتلقي دوراً كبيراً في إفسادنا، إنهم يدللوننا، ويضفون علينا صفات ليست فينا، إنهم أحياناً لا يعرفون أفكارنا، لكن يعرفون أننا نطلّ عليهم من التلفزيون، وهذا إنجاز يُكرم صاحبه أياً كان.
مؤلم أن يراك آخرون مثل مسحوق إيريال للغسيل، أو وجبات ماغدونالدز، هم أيضاً نالوا شهرتهم، وكأنك قطعت آلاف الأميال، وكأنك تحملت كل هذا العبء، وكأنك فعلت فعلتك التي فعلت لتكون سلعة جديدة يفتخر الناس باقتنائها في صورة أو توقيع.
(5)
باب ما جاء في الزمن
لماذا نحب أفلام الأبيض والأسود على رغم ما توصلت إليه أحدث التقنيات في الأفلام الملونة البديعة؟ تتعدد التفسيرات، “فيها حاجة حلوة” هذا هو ظني وكفى.
فيما مضى؛ كان علينا إذا أردنا أن نُعدَّ بحثاً في موضوع ما أن نغوص في المكتبة، نشتري منها ما لذّ وطاب، نحمله إلى بيوتنا ومكاتبنا، ثم نغرق فيما اشتريناه حتى نستطيع أن نخرج بمعلومة هنا أو معلومة هناك، قبل أن نبدأ رحلتنا إلى هذا البلد أو ذاك، وحتى عندما بدأت الإنترنت لم يكن فيها ما يتوافر الآن من آلاف الكتب والمراجع.
فيما مضى، وفي مناطق الأزمات؛ كان يصعب علينا جداً حمل أجهزة التصوير التي كانت أثقل كثيراً مما هي عليه الآن، وكان يصعب علينا التواصل الهاتفي مع المؤسسة التي نعمل بها لانقطاع خطوط الهواتف في ظل الحرب الدائرة، فكنا نلجأ إلى اقتناء الستالايت، ولثقله الشديد أيامها كنا نستأجر شخصاً تكون كل مهمته حمله.
فيما مضى؛ كنا نقول ما نقول ولا نعرف هل وصلت رسائلنا للناس أم لا، خصوصاً إن كان الواحد منا يسكن أوروبا، وليس بين أهله في بلده العربي، ومن ثم فهو لن يعرف ردود أفعال المتلقين، وما إذا كانت قد بلغتهم أفكارنا، وما إذا كانوا تفاعلوا معها.
الآن، وفي زمن التواصل الاجتماعي؛ أصبحت ردود الأفعال تصلك فور انتهائك من عملك، وهو ما يدفعك لأن تحمد الله على أن هذا الوضع لم يكن موجوداً عندما بدأنا، وإلا كان أصابنا اليأس.
بعض الناس لا يكملون مشاهدة الفيديو أو قراءة المقال، لكنهم يتطوعون بالإدلاء بآرائهم المنددة بما فعلت، بعضهم يفترض أنك قلت شيئاً لم تقله، ويبدأ في تفنيده، وبعضهم يخبرك أنه يختلف معك في رأيك ثم يدلي برأيه الذي هو نفس رأيك بالتمام والكمال، والبعض يحب أن يؤذيك بالسب، يريد أن يقول أنا سببت اليوم فلاناً بأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وبعضهم على قناعة برأيك لكن لا بد أن يبلغك باختلافه لأنه صنّفك ضمن تيار ما، ومهما أقسمت له أن لا تيار يضمك فستظل قناعته كما هي.
الجمهور الواعي المتفق أو المختلف معك رزقٌ من الله، يسعدك بكلامه عندما يلاقيك، يقول لك: شكراً غير أني أختلف معك في كذا وأتفق في كذا، أو أن ما شاهدته قد غيّر رأيي. على كل حال يبقى لكل زمن مذاقه وحلاوته.
(6)
باب ما جاء في المتاعب
إذا كنت تبادلها الحب؛ فإن مهنتك مثل أي امرأة تفتن بها، تقلب حياتك رأساً على عقب، لا وقت للدوام، هي كل دوامك، هي تملي عليك ما تقرأ، وما تشاهد، لا تدعك حتى وأنت في راحتك، وأنت مع عائلتك في عطلة صيفية أو شتوية، تفكر فيها وبها، تنظر للأشياء عبرها. ومثل كل علاقات الحب؛ تفتر المشاعر أحياناً، وتهدأ الهمة، لكن ما تلبث أن تعود أشد وأنكى.
كم من مرة قررت أنها آخر مرة، وما إن تضمني الحياة الرتيبة أسبوعاً حتى أبحث في الخريطة: أين هي المحطة القادمة؟
المتاعب تبحث عنها، فإن لم تجدها تجدك، في ضابط أمن يقتحم غرفتك في الفندق، أو مستشار للرئيس يأمرك فجأة بمغادرة البلد اللاتيني على وجه السرعة، أو في رصاصة تمر حولك، تزغرد وأنت تبتسم ببلاهة، أو في رفض رجلٍ لقاءَك بعد أن قطعت الأميال سعياً له إثر موافقته قبل أن يتراجع، أو في مدينة محاصرة وأنت معها محاصر، أو في مشاهد الأسى التي تحتلك وترفض أن تغادرك.
لا يعرف الحب إلا من ذاق، ومن ذاق عرف أن هذه المتاعب مهما اشتدت لا يتحملها إلا المحبون.
(7)
باب ما جاء في الأماني
بعض الأصدقاء العاملين في هذه المهنة يتمنون -في مرحلة متأخرة من حياتهم- أن يتركوا هذه الضوضاء وما جلبته على نفوسهم، وأن يقضوا ما تبقى من حياتهم في مزرعة مثلاً أو مقهى ثقافي.
فكرت مثلهم، لا خبرة لي بالمزرعة، لكن لي خبرة في القهوة وإن كنت شارباً، لكن فكرت في أمر آخر، لماذا لا أدخل عزلة “اختيارية” لأتفرغ لعمل ما؟
ربما مثلما فعل الأميركي جيروم ديفد سالينغر، الذي ألف رواية “الحارس في حقل الشوفان” الشهيرة، والتي بيعت منها خمسة وستون مليون نسخة، لكنه قرر بعدها أن يدخل في عزلة ليكتب لنفسه وبمفرده، فاشترى بيتاً في منطقة ساحلية، واختار العيش في عزلة، ولم يُجْر سوى مقابلة أخيرة عام ألف وتسعمئة وثمانين، ليتوفى بعدها بثلاثين عاماً، فيكتشف أصدقاؤه أن لديه ما لا يقل عن خمس عشرة مخطوطة غير منشورة.
أو ربما من الأفضل أن أكون مثل فرانز كافكا الذي كتب لحبيبته: “ما رأيك إذن في الرجل الذي ينام حتى السابعة أو الثامنة صباحاً، يأكل شيئاً ما بسرعة، يتنزّه ساعة ثم يبدأ بالكتابة حتى الواحدة أو الثانية ليلاً؟ هل ستتحمّلين هذا من الرجل الذي لن تعرفي عنه سوى أنه يجلس في غرفته ويكتب، ويقضي الخريف والشتاء على هذا المنوال، هل هذه حياة ممكنة؟”.
أو أحذو حذو هنري ديفد ثورو صاحب الكتاب الشهير “والدن”، فقد راح إلى هذه البحيرة التي حمل كتابُه اسمَها، وأسس فيها كوخاً بناه بنفسه، وعاش على ضفافها وحيداً، لمدة سنتين وشهرين ويومين، وانقطع عن عائلته وعن الناس، كتب عن العزلة ومدحها، وبعد وفاته نُشر له مقال بعنوان “العصيان المدني”، ترك أثره العميق في حركات التحرر، فاستفاد منها غاندي ومارتن لوثر كينغ.
لا أعرف هل سأفعل مثلهم، أم مثل غيرهم، أم سأختار أمراً آخر؛ لكن ما أعرفه جيداً أن العمر يجري، والأثقال تزيد، والواقع يتغير، غير أني لا أكف عن الأمل!