(1)
استهلال
ربما كان عمري حينها ست سنوات عندما كلفني والدي بمهمة، ظاهرها شراء حاجة من البقال في آخر شارعنا، وباطنها تدريبي على الخروج من البيت وحدي، ثمة أمتار قليلة تفصلنا عن محل البقالة، لكنني وجدت حفاوة عند عودتي، مما فتح شهيتي لقص ذكرياتي في هذه الرحلة، وكان أهمها قولي إنني “سمعت الله” وهو يتحدث في الراديو، دُهش والداي قبل أن ينفجرا من الضحك، هذا كلام الله لكنّ الذي يتلوه رجل.
في زمن الجامعة كنت أصلي يوماً في بيتي فتوقفت فجأة أثناء الصلاة وقلت: ما هذا العبث الذي أفعله؟ من يسمعني أو يراني في هذه الغرفة؟ كنت أيامها أبحث عن الحقيقة، كتبت ضد الجماعة الإسلامية في مجلات الحائط أحارب “سيدي الأمير”، قررت أن أقتحم عروشهم، حضرت مخيماً وسط تحفز الحاضرين، من أتى بهذا الرجل الذي يهاجمنا إلى هنا؟
في السنوات اللاحقة خضت في الأمر، وأنقذني الله من الغلو والتطرف، رأيتهما بعيديْن عن جوهر الحقيقة التي أعدت اعتناقها.
صديقي أيمن كان يدهشني بكثافة قراءاته، قبل أن يدخل في السلك الديني دون أن يدخل في الجماعة، ظننت أن الإيمان يستلزم قراءة عشرات الكتب من الفلسفة قبل أن يعتنق المرء الحقيقة، وكانت أم أحمد بائعة الطماطم “تصعب عليه”، فكيف لهذه السيدة وغيرها أن تقرأ ذلك كله لتهتدي إلى الله؟
الاكتشافات الكبرى تبدأ بأشياء صغيرة جداً وربما تافهة، تفاحة تسقط على رأس الرجل فيكتشف الجاذبية، وآخر يكتشف البنسلين، وثالث أعواد الثقاب، كأن كل ما يتطلبه الأمر القليل من التفكر.
في جنوب السودان؛ خضنا في صحراء قاحلة يوماً كاملاً، وها هي الشمس تستعد للغروب بكل ما يحمله المشهد من خوف المساء القادم والتيه الذي يهددنا، في السماء كان سرب من الطيور يحوم، لا.. كان يرقص الباليه، حشد ضخم يتحرك على وقع سيمفونية لا يخطئ فيها أحد، من الواضح أنه تم تدريبه جيداً، قلت: من المايسترو يا ترى؟
في الفيلم الذي كنت أشاهده؛ انبرت الفتاة تخبر حبيبها وهما مستلقيان ينظران إلى النجوم، تشرح له الكواكب ومجموعاتها وكم هي هائلة، ثم قالت لحبيبها بعفوية مفرطة إن الله الذي خلق كل هذه المجرات يعرف اسمي ويعرفني، مثلما نفخر في المقياس البشري بأن الرئيس أو المدير يعرفني، بقيت الليل أفكر فيما قالته، وهو ليس بجديد، لكن استحضار المعنى يجعلك تعيش الأمر وكأنه أول مرة، الله يعرف اسمي ويعرفني.
كتلك السيدة -غير المؤمنة- التي قالت لي يوماً: إذا كان هناك خالق فإنه لن يخلقك ويدعك، بل سيسمعك، حاوره وأبلغه أمرك، إذا كان موجوداً فسيرد عليك.
الدكتور يوسف السوري انطلق يشرح لي في مطعمنا بموسكو أمراً في شأن العين، أشياء مذهلة خلف عيوننا، أجهزة معقدة لا حصر لها في هذا المكان الضيق، تهت مع شرحه، قاطعته: كيف يمكن مثلاً في زمن الاتحاد السوفياتي أن يدرس الأطباء ذلك كله ولا يخلصوا إلى وجود إلهٍ؟ أجابني بسرعة: الإيمان بالقلب وليس بالحسابات العقلية.
زوجة صديقي الألمانية تقول لزوجها الأردني مندهشة وهي تشاهد فيلماً مصرياً: “كيف يقولون توكلنا على الله وهم يستعدون لجريمة سرقة كبرى؟”، استغرب الحضور ملاحظتها، أي استغربنا كيف أننا أنفسنا لم نلحظ ذلك، الله موجود دائماً في بيوتنا، وفي حياتنا اليومية، موجود كاسم، دون استحضار لمعانيه ودلالاته.
كل حادثة من هذه، وغيرها كثير، كنت أخرج منها وكأني أعرف الله لأول مرة.
(2)
الأسئلة الشرسة
في السفر فرصة لا تعوض لأن تسأل نفسك كل ما يخطر ببالك من أسئلة، تمر بمجتمعات لا تؤمن بما تؤمن أنت به، ترى ما لم تعتد أن تراه، تسمع ما لم تسمعه من قبلُ، السفر اختبار لإيمانك، أواثقٌ أنت أنك على حق فيما تؤمن به؟
عرفت أناساً صالحين، نماذج فريدة في العطاء والإخلاص والأخلاق والمعاملة، لكنهم لا يؤمنون بما أؤمن به، ما مصير هؤلاء؟ كيف يتساوى رجل صالح لا يجد سبيلاً إلى الخير إلا سلكه، مع فاسد لم يترك إثماً إلا ارتكبه؟ كيف يتساويان ويدخلان النار سوياً لأنهما على غير معتقدنا؟
لاحقاً قررت ألا أنشغل بمستقبلهم، من أسماء الله الحسنى التي أحبها “العدل”، أترك شأن الناس لخالقهم، محكمتك غير محكمة الله، أنت غير ملمٍّ بالصورة كاملة، لا تتوافر لديك سمات القاضي الذي بوسعه أن يحكم على حيوات الناس ونهاياتهم ونواياهم.
في العمل مررت ببلاد وقع فيها ما يشيب له الولدان، وطبعاً السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يسمح الله لأهل الشر بأن يرتكبوا ما ارتكبوه، من المسؤول عن هذه الفوضى الأخلاقية، لماذا لا ينال أهل الشر جزاءهم، لماذا لا يثاب أهل الخير على فعلهم، لماذا لا يأخذ كل ذي حق حقه، لماذا لا يعيش الناس في أمان ومساواة ينعمون بما على الأرض من نعم؟
ظللت أحلم بهذه الصورة الوردية حتى تذكرت أنها صفات الجنة، دار الجزاء، وأننا على الأرض دار العمل، فصمَتّ.
(3)
الاختبار
الذين ألحدوا، الذين نكثوا أيمانهم، الذين أنكروا وجود الله، أكثرهم تغير نتيجة موقف، وليس نتيجة بحث ودراسة، لقد اكتشفوا أن الشخص أو الكيان الذي كان يمثل لهم الإسلام إنما هو -مثل آخرين- يخطئ وينحرف ويكذب، وأن له مطامعه السياسية والشخصية، وأنه قد يتجاوز عن مبادئه سعياً لتحقيق أهدافه.
حمدت الله على أني -منذ زمن بعيد- اتخذت قراراً مع نفسي أن أفصل بين الأمرين، للناس أن يدّعوا لأنفسهم ما يدّعون، أنا مع صاحب الشأن ولست مع رعيته.
ثمة حسنة مهمة أثمرتها الصدمة التي هزت منطقتنا العربية -وما زالت- إثر اندلاع ثوراتها، فقد انفتح الحديث على كل شيء، يمكن الكلام في أي موضوع، ويمكن التشكيك حتى في أي من المسلّمات.
فرصة نادرة لمراجعة أفكارنا، وما توارثناه أباً عن جد، هذا رائع، المشكلة أننا نفتقد المنهجية وآداب الحوار، والنتيجة أن النقاشات الفكرية تتحول إلى حالة من الفوضى، ومهرجان من السباب المتواصل، فلا يدعون لك لحظة تفكر فيها في أمر فكرة مطروحة، أو رأي معروض.
لا أظن أن أحداً تعرض للتشويش على معتقده كما تعرض المسلمون في حقبة الاتحاد السوفياتي الشيوعية، سبعون عاماً والتشكيك فيما يؤمنون به قائم على مدار الساعة، باسم مجاراة العلم والحضارة ونبذ التخلف الذي أتى من الصحراء.
سمعت حكايات كثيرة من الناس في آسيا الوسطى عن الزمن الذي خضعوا فيه للاتحاد السوفياتي، لقد قرر الأجداد حينها ألا يتورطوا في أحاديث، ليس فقط خوفاً من الإرهاب المسلط عليهم إن هم خالفوا، بل لانعدام أي فرصة لحديث عاقل أو ناضج، وإنما هي الهستيريا الجماعية بقيادة الدولة ضد الله، ورأوا أن الأفضل هو الصمت، هو أن تحتضن إيمانك وتبتعد عن هذا المستنقع.
لطالما أحببت هؤلاء البسطاء، إيمانهم غير افتعالي، هو راسخ في داخلهم بهدوء وبطريقة عجيبة، لا شأن لهم بالآخرين، شأنهم مقتصر على أنفسهم، وكل همهم كان الحفاظ على كنز معتقدهم، الذي هو واضح كالشمس، مؤمنين بأن كل هذا الخبَث سينهار، وقد انهار.
يذكرونني بذلك الأعرابي الذي أنكر الملاحدة قصته، والذي ما زلت أؤمن بمقولته حتى وإن لم يكن قد قالها: “البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذاتُ أبراج وأرض ذاتُ فِجاج ألا تدل على العليم الخبير؟”؛ أنا ذاك الأعرابي وإن طفت العالم.
(4)
الختام
كل مرة كنت كأنني أعرف الله لأول مرة، لقد اكتشفت أن هناك ألف طريق إلى الله.. إذا أراد السائر أن يصل