يوميات العنكبوت
(1)
كابول
ديسمبر 1979
السابع والعشرون منه، يوم شتوي بارد جداً، الناس تمضي في حياتها الطبيعية، لا تنتبه أن هناك نحو سبعمئة من القوات السوفييتية الخاصة تزاحمهم شوارع العاصمة، وقد تنكروا في الزي الأفغاني.
يتوافد الوزراء على القصر الرئاسي “تاج بيك” الذي جُدد قبل أربعين يوماً لعقد اجتماع دعا إليه رئيس البلاد حفيظ الله أمين، حان وقت الغداء، يقبل الحضور المنهك من الحوارات على الطعام، ولا يدري السيد الرئيس أن الاستخبارات السوفييتية قد دست له فيه السم، يُستدعى الأطباء على الفور.
في السابعة مساء، وفيما الأطباء يعالجون الرئيس، تتسلل مجموعة من القوات السوفييتية الخاصة إلى مقسم الاتصالات الرئيسي وتقوم بتفجيره، تصاب القيادة العسكرية الأفغانية بالشلل، وكما يجري في أفلام الجريمة تتحرك القوات السوفييتية الخاصة بسرعة ومهارة وخفة لتحاصر البنايات الحكومية الرئيسية وتبسط سيطرتها عليها.
يُقتحم القصر الرئاسي، تندلع معركة مع حرسه الخاص تستمر خمسة وأربعين دقيقة، يُقتل الرئيس الأفغاني الذي ظل يعتقد لآخر لحظة أن القوات السوفييتية جاءت لمساعدته، يُلف جسده بسجادة من القصر ويُدفن في الحال في مكان مجهول.
الراديو والتلفزيون يبثان الموسيقى والأغاني الوطنية، يدرك الناس أن هناك حدثاً جللاً، في زهاء الساعة العاشرة والنصف يخرج “بابرك كارمل مرتدياً قميصاً أبيض ورباط عنق ليعلن بيانه، إنه الرئيس الجديد الذي نصبّه السوفييت، فيما نحو نصف مليون جندي سوفييتي بترسانة من الأسلحة لا تعد ولا تحصى يتدفقون على البلاد في عملية تستمر عقداً من الزمن يقتلون فيه نحو مليون أفغاني، ويصيبون مليوناً ونصف مليون آخرين بالجراح، ويهجِّرون نحو خمسة ملايين من النساء والأطفال.
(2)
الإسكندرية
يناير 1980
لا أنام الليلة، أُمضي الوقت مع الزملاء استعداداً للغد، وفي الغد يصل الطلاب فيجدون أروقة الكليات مغطاة بصور للغزو السوفييتي لأفغانستان، صور بشعة ومخيفة للضحايا الآمنين، المنشورات تفيد بأن مظاهرة تنطلق في العاشرة صباحاً، وفي الموعد وفي المكان المحدد حشود من الطلاب ربما لم تشهدها الجامعة من قبل.
تندد الهتافات الساخنة بالعدوان السوفييتي، ننطلق إلى خارج الحرم الجامعي، يزداد حماسنا في الشوارع، نريد أن يسمع العالم كله صراخنا، تلتحم المظاهرات القادمة من كليتي الطب والهندسة بمثيلاتها القادمة من مجمع الكليات النظرية، تزداد الحماسة وتلتهب.
صحيح أن الإسكندرية ماريا وترابها زعفران، إلا أنها كانت في هذا اليوم أفغانية بحق، هتافات الطلاب ترج الأنحاء رجَّاً، المنشورات توزع على الناس التي أذهلها المشهد، عجوز يرقب المشهد مندهشاً، سيدة تسأل: أين تقع أفغانستان.
تستمر المظاهرة بموازاة الترام، هذا الترام الذي بدأ العمل به عام 1860 كأول وسيلة نقل جماعي في مصر وإفريقيا، ولأنه في مثل هذه المناسبات ترتفع كل الشعارات، فقد بدأتُ أهتف: كارتر كارتر يا لعين فين القدس وفلسطين، ردَّد الجميع بحماسة لاعنين الرئيس الأمريكي، إلى أن اعترض معترضون بأنه لا يجوز لعن شخص بعينه.
نصل الأزاريطة، أقدم الأحياء والتي يسميها أهل الإسكندرية المزاريطة، توقفنا سيارات الأمن، هنا حدكم الأقصى، كان الطلاب على أعلى استعداد للمواجهة، لكن قيادتهم رأت غير ذلك، صعد “ساني” إلى شقة بالدور الأول، خرج إلى الشرفة، ألقى خطبة نارية ثم أحرق العلم الروسي وسط الهتافات الصاخبة ثم انفضت المظاهرة.
(3)
فرانكفورت
ديسمبر 1987
ينتظر المسلمون في أوروبا هذا الشهر كل عام لأنه موسم العطلات، ومن ثم أوان الفعاليات التي تجمعهم، لكن هذا العام مميز، فأحد قادة العرب المجاهدين في أفغانستان قد وصل ورتبت له جولة على عدة مدن ألمانية.
لقد اعتادت قيادات المجاهدين العرب والأفغان التردد من حين إلى آخر على المدن الأوروبية، يشرحون القضية ويجمعون التبرعات من الجاليات المسلمة، حكاياتهم الساحرة، وخطاباتهم النارية، وبساطتهم وعزيمتهم على مواجهة قوة عظمى كانت تثير الحماسة، خصوصاً إذا كان أحدهم عربياً، بالتحديد فلسطينياً.
جولة طويلة يقوم بها الشيخ عبدالله عزام على المدن الألمانية، شاركته بصفتي الصحفية في جزء منها، بالتحديد عندما سافر من فرانكفورت إلى برلين، كانت أكثر المرات حماسةً هي تلك التي خطب فيها الرجل في مسجد كبير للأتراك في برلين، كان العجائز خصوصاً يبكون حتى قبل أن يقوم المترجم بعمله، ثم تتدفق التبرعات سخية بصورة مذهلة.
كان الرجل بسلوكه لافتاً للجميع، بساطته وتواضعه، ومنطقه الذي يتحدث به، وسواء أعجبك أم لم يعجبك، تجد له أثراً في نفسك، وهو مختلف في سلوكه عن سلوك بعض الدعاة العرب المدعوين إلى أوروبا، حتى إنه رفض بإصرار أن يهديه أحد “شبشباً” بدلاً من هذا الذي بلي في قدمه.
كان يعتقد أنه لا يجوز له الاستفادة بأي شيء، بالمعنى الحرفي لأي شيء، من رحلة يعتبرها في سبيل الله وفي سبيل الجهاد، لا ينسى فلسطين في خطاباته أبداً، ثم يرحل عائداً إلى أفغانستان، وأظل أتتبع أخباره.
“في تمام الساعة الثانية عشرة والربع من ظهيرة 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1989؛ اقتربت سيارة شيفروليه-ڤيجا حمراء من مسجد سبع الليل في مدينة بيشاور الباكستانية، حيث كانت الحشود تنتظرها مرحِّبة بصاحب السيارة، إلا أن قنبلة على جانب الطريق قسمت السيارة نصفين فقتلت كل من كان فيها”، مرت أكثر من ثلاثين عاماً ولم يعرف أحد بعد مَن اغتال الشيخ عبدالله عزام.
(4)
غروزني
يناير 1995
أصلُ إلى بلدة خسافيورت الداغستانية، الشيشان هي المقصد والحرب دائرة على أشدها، روسيا تحاول أن تتجنب مصير الاتحاد السوفييتي المتفكك وتحتفظ بفيدراليتها، والشيشان تريد الاستقلال.
ألتقي مجموعة من الثوار الشيشانيين الذين يعبرون الحدود يومياً طالبين الدعم من إخوانهم في داغستان، أتفق معهم أن أكون بصحبتهم في طريق عودتهم إلى الشيشان، أسألهم كيف نتمكن من ذلك والقوات الروسية تنتشر على الحدود بين داغستان والشيشان، يبتسمون، فقط يبتسمون.
في اليوم التالي أخرج معهم، أتخيل أننا سنخوض مغامرات جيمس بوند لعبور الحدود، أردد الشهادتين، نمر بوحدة روسية على بعد أمتار منا، يدير الجنود الروس رؤوسهم وكأننا غير موجودين، أسأل والإجابة: أن الجنود الروس في حالة ضعف غير عادية، لا طعام ولا ذخيرة كافية، وهم يتجاهلون مرورنا لقاء سلامتهم ولقاء بعض الإمدادات الغذائية.
داخل الأراضي الشيشانية، وعند بعض القرى أسمع هذا الكلام مجدداً، حتى إن بعض النساء كن يحكين أن الجنود الروس الغزاة يطرقون أبوابهم يسألونهم شيئاً من الطعام، لم يكن من السهل عليَّ تصديق ذلك، لكن الأمر سيتضح لي لاحقاً.
(5)
سراييفو
يونيو 2020
ثمة طقوس لا يمكنك تجاوزها، تأتي لك في “الكنكة” فتأخذ بالمعلقة “الوش”، تضعه في الفنجان، ثم تقلب ما تبقى في “الكنكة”، ثم تصب بعضاً منه في الفنجان، ثم ستجد قطعة “ملبن”، تقضم قضمة، الآن بوسعك أن تبدأ في شرب قهوتك البوسنية.
أفعلُ ذلك وأمسك بروايتي، تصفعني شهادات الجنود السوفييت، لقد أخبروا الكاتبة بكل شيء، مقاتلون عائدون من أفغانستان وأمهات الجنود القتلى، والأطباء الذين عملوا هناك، والممرضات، والفنيون، والإداريون، وكل من استطاعت سفيتلانا أليكسييفيتش إقناعه بالحديث معها، وأطلقت على روايتها اسم “فتيان الزنك”، نسبة إلى توابيت الزنك التي كانت تحمل القتلى إلى الوطن.
حرب عبثية خسر فيها الاتحاد السوفييتي ما يزيد على 15 ألف قتيل ومئات الأسرى والمفقودين، انتهت بهزيمته وانسحاب جيشه عام 1989 لينهار الاتحاد السوفييتي كله بعد عامين.
جهد عظيم قامت به الصحفية والكاتبة القادمة من جمهورية روسيا البيضاء تستحق عنه وعن جهدها في أدب الحرب أن تنال جائزة نوبل للآداب عام 2015، وأن تتعرض بسبب الرواية للمحاكمة.
كل ما قيل عن وصف الحرب وبشاعتها لم يدهشني ولم يلفت نظري، فهذه طبائع الحروب، ولكن المدهش بالنسبة لي والذي جعلني لا أتوقف عن القراءة هو وصف حال الجيش الذي كان يدك أفغانستان دكاً، ويقتل من قتل ويشرد من شرد، لقد بدا لي الاتحاد السوفييتي وكأنه كان بيت عنكبوت.
“ثمّة ثلاثة أحلام للجندي: شراء وشاح رأس لأمه، وطقم أدوات تجميل لصديقته، وله شخصياً سروال سباحة، فلم تكن هذه السراويل متوفرة في الاتحاد السوفييتي آنذاك. تلكم هي الحرب”.
تخيلوا بحسب ما ذكره أحدهم للكاتبة أن حال أفغانستان كان أفضل من حال الاتحاد السوفييتي، وأن ذلك كان عزاء الجنود المجبرين على الذهاب إلى هناك، عزاؤهم أن يجدوا ما هو غير متوافر في بلدهم الذي أذل نظامه الحاكم شعبه وحرمه أبسط الأشياء التي كانت تتمتع بها قياداته وعائلاتهم.
جيش بائس، جائع، يُطلَق النار فيه على من يجرؤ من أبنائه على التسلل إلى مخزن الأغذية لسرقة ما يسد الجوع، جيش يهين كبيره صغيره، يذله ويمرغ أنفه في التراب، يأمره بتنظيف حذائه، بل بلعقه بلسانه، بحسب ما حملته الشهادات.
جيش يتحول إلى حفنة من اللصوص يسرقون كل شيء تقع عليه أيديهم، مقابل الخمر، المخدرات، الطعام، العطر، الساعات، جيش يطلق بعض أفراده على أطرافهم الرصاص تجنباً للاستمرار في الحرب، “وهناك كان كل شيء مسموحاً إلا الفرار من ساحة المعركة لأنها تعتبر خيانة للرفيق الأكبر”.
كم فنجان قهوة شربت لا أعرف، لكن أعرف أن شهادات الجنود تتحدث كلها عن الخدعة التي تعرضوا لها، لقد أبلغوهم بأنهم مرسلون لمساعدة الشعب الأفغاني في بناء الجسور والطرق والمدارس ونقل الأسمدة إلى القرى، وأن الأطباء السوفييت سيقومون بمهمة مساعدة الحوامل، وسيحمل الجنود العائدون إلى المدارس الغيتارات.
“كانت الصحف تلتزم الصمت أو تكذب، والتلفزيون أيضاً. الآن يكتبون أننا محتلون. لو كنّا محتلين فلماذا أطعمناهم، وقدمنا لهم الأدوية؟ ندخل إلى قرية ما، فيفرحون بقدومنا، نخرج فيفرحون أيضاً، وهكذا لم أفهم، لماذا كانوا يفرحون دائماً؟”.
وتستمر الشهادات: “دخلت اليوم الحافلة وسمعت كيف جرت مناقشة بين امرأتين: (أي أبطال هم؟ إنهم يقتلون الأطفال والنساء هناك، هل هم بشر ذوو عقول سليمة؟ ويدعونهم إلى المدارس، إلى أطفالنا. كما تُوفَّر لهم الامتيازات). فخرجت من الحافلة في أول موقف. نحن كنا جنوداً ونفَّذنا الواجب. وعقوبة عدم تنفيذ الأمر في ظروف زمن الحرب هي الإعدام رمياً بالرصاص! ويُقدَّم الجندي إلى المحكمة العسكرية”.
“يُقال الآن إنها كانت خطأً سياسياً. يقولون هذا اليوم بصوت خافت، وغداً بصوت أعلى. لكنني أرقت دمائي هناك؛ دمائي، ليست دماء غيري. لقد منحونا أوسمة لا نحملها، وسنعيدها في المستقبل. الأوسمة التي حصلنا عليها بشرف في حرب غير شريفة”.
وتتوالى الاعترافات عما ارتكبوه بحق الأفغان، “يجب أن ننطلق من أننا وحوش، وهذه الوحشية مغطاة بكساء رقيق من الثقافة، وتنويمة رقيقة”، “نعم، لقد مارست القتل، وكياني كله ملطَّخ بالدم، لكنه رقد ميتاً، صديقي، وكان بمثابة أخ لي. الرأس على حدة، واليدان على حدة، والجلد.. أنا طلبتُ فوراً إرسالي في عملية هجومية. لقد شاهدت في قرية موكب جنازة، كان هناك عدد كبير من الناس، وحملوا الجثمان في قماش أبيض، كنت أراقبهم عبر المنظار، وأصدرت الأمر: (أطلقوا النار)”.
“كان لدي صديق، وكنيته الدب، وهو رجلٌ ضخم الجثَّة وقويُّ البنيان ويُعادل طوله مترين. عاد من أفغانستان وبعد عام شنق نفسه. أنا لا أعرف، فهو لم يثق بأحد، ولا يعرف أحداً، لماذا انتحر: هل بسبب الحرب؟ أم لاقتناعه بأن الإنسان حيوان حقير؟ في الحرب لم يُوجِّه هذه الأسئلة لنفسه، وبعد الحرب صار يفكِّر، ففقد عقله”.
“لقد تحدَّث مرة واحدة فقط عن أفغانستان في إحدى الأمسيات، جاء إلى المطبخ حيث كنت أطبخ طبق الأرانب، كانت القطعة ملطَّخة بالدم، مرَّر أصابعه على الدم ونظر إليه، قائلاً لنفسه جلبوا صديقي وبطنه ممزَّق، رجاني أن أطلق النار عليه، وقد فعلت”.
“وهكذا نجلس في المقابر حتى غروب الشمس، نشعر بالراحة هناك لأننا نتذكر أولادنا. كم سنعيش؟ لا يعيش طويلاً من يكمن في نفسه مثل هذا الألم ومثل هذه الإساءات والضيم”.
أمام الشهادات الدالة على بيت العنكبوت أجد نفسي في موقف غريب، هل أكره هؤلاء الذين ارتكبوا في أفغانستان ما ارتكبوا، أم أتعاطف مع ذويهم وكأن الجميع كان ضحية خدعة السلطة، هل يجوز للمرء أن يتعاطف مع ذوي الجناة؟!
أقول لنفسي لقد غادر السوفييت أفغانستان وأتى الأمريكان، ولا أحد يريد أن يستوعب درس هذا البلد، كلهم يسقطون ضحية سلطات وزعامات خادعة، أهُمُّ بمغادرة قهوتي وتلك العبارة عالقة في ذهني “القضية أن الصنم أجوف، وكل ما هنالك أن الكهنة جلسوا فيه وتحدثوا إلى الرعية”.