عن الذات والحرب والثورة (2)
الصحافي والإعلامي المصري الذي عرفناه من خلال برنامجيه «يحكي أن» و«نقطة ساخنة» في قناة «الجزيرة» ومقالاته في صحف عربية مختلفة مثل «الشرق الأوسط» و«الحياة» و«الأهرام» وغيرها، وقنوات تلفزيونية
ابراهيم عبدالمجيد – القدس العربي
الصحافي والإعلامي المصري الذي عرفناه من خلال برنامجيه «يحكي أن» و«نقطة ساخنة» في قناة «الجزيرة» ومقالاته في صحف عربية مختلفة مثل «الشرق الأوسط» و«الحياة» و«الأهرام» وغيرها، وقنوات تلفزيونية مصرية وعربية، يقدم لنا في هذا الكتاب التحفة ما وراء تجربته في العمل الصحافي والإعلامي كمعد للبرامج، ثم صانع للأفلام الوثائقية، حتى وصل إلى سن الستين، الذي بعده كما يقول في النهاية تدخل مخزن العمر الرمادي، وتكون الحكاية أحد وسائل الوجود الذي يقترب من غلق أبوابه. الجانب الأكبر من الكتاب عن هذه الرحلات التي وأنت تشاهد ما نتج عنها من برامج وأفلام لا تدري كم تعرّض هو ومن معه للموت، وكم جاب وتنقل بين أدغال وصحارى وكهوف وجليد وبحار وأنهار وسجون ومعتقلات وسراديب، في بلاد شهدت تقلبات وثورات وانقلابات ومذابح عبر الربع الأخير من القرن العشرين، وبدايات هذا القرن. لقد رحل أسعد طه عن مصر كصحافي حر غير مقيد بتعاقد مع أي جهة، وظل كذلك، وهذه وحدها مغامرة كبرى نجح فيها وذلك أعطاه الحرية للتنقل بين البرامج والمحطات التلفزيونية والصحف العربية والأجنبية، رغم ما فيها من مخاطرة بالوقت والجهد والمال. ما كتبه عن مصر منذ هزيمة 1967 حين كان طفلا في مدينة السويس، فهو من مواليد 1956 وأحداثها عاشها شابا. الكتاب وهو يطوف أماكن الصراعات الكبرى يفرد بعض الحكايات عن السيرة الشخصية له ثم يعود إلى هذا العالم القاتل الذي طحن الجنس البشري في حروب تحت شعارات الثأر أو الانتقام، والأكثر تحت شعارات فاشية ونازية والحروب الطائفية والقبلية التي شملت آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وافريقيا، سبعين دولة بالتمام والكمال.
الكتاب كبير 450 صفحة صادر عن الشبكة العربية للأبحاث في بيروت، ما هو فيه عن سيرته يمكن إجماله في أنه عرف مجد الحكاية من والدته وأبيه وأخته طفلا في مدينة السويس، ثم بسرعة انتقلت الحكاية إلى التهجير إلى مدينة طنطا بعد هزيمة 1967، وكان تعليمه الجامعي في كلية الهندسة في الإسكندرية، وخلال ذلك أخذه الشوق إلى المعرفة إلى جماعة الإخوان المسلمين، ودخل بينهم للمعرفة، وكما دخل خرج، وإن ناله شيء من الاعتقال في الإسكندرية بعد مقتل السادات. كان يريد أن يعرف ويرى، لكن الأمن لديه أسماء وأوراق ولا علاقة له بالنيّات. كما عايش جماعة الماركسيين في كلية الهندسة في الإسكندرية في أوائل السبعينيات، وتوقف عند واحد من أجملهم هو تيمورالملواني، توقف عنده بالمحبة والتقدير الفائق لإنسانيته، رغم خلافهما الفكري، هذا الماركسي الذي ذهب عدد كبير من الطلاب في سيارة نقل ليتبرعوا له بالدم، وهو يجري عملية جراحية في المستشفى، وأضيف أنا أن أحدا من الحركة الوطنية المصرية أو الماركسيين لا يكره أبدا تيمور الملواني، الذي رحل مبكرا، لكن شهادة أسعد طه أجرت دموعي. رحم الله تيمور الملواني أيقونة اليسار في الإسكندرية.
الكتاب الذي تبدأ فيه لا تتركه فهو في عشق المكان والمدن بتراثها المعماري وأهلها، رغم الأهوال، وهو أيضا دروس مهنية وحياتية لمن يشاء دخول هذا الطريق وهو في الحقيقة ليس مجرد حكايات، بل هو عمل أدبي بين السيرة والرواية،
عدت إلى الكتاب الرائع الذي فيه من الأحداث المثيرة الكثير جدا، لكن ما فتنني إلى جوار خبرات المؤلف الرهيبة، عن صناعة الأفلام والبرامج، أن الكتاب الذي حمل عنوان البرنامج «يحكى أن» والذي فصوله مرقمة بطريقة «الأولى»، «الثانية» و«الثالثة» حتى تصل إلى «الثانية والستين» وهذا الترقيم يعني الحكاية الأولى أو الثانية إلخ، وليس الفصل الأول. ما أثارني ككاتب هو هذه الصورة التي تطل من بين الحكي. فهو يكتب مثل البرامج التي أعدها أو الأفلام التي صنعها، صورا متتابعة لكل الأحداث من سفر ومغامرة. صور تطل عليك من خلال اللغة فيتفوق على معنى الحكاية العادي ويقترب من المعني الروائي، كما هو كتاب سيرة وإطلالة الفكر عبر النهايات التي تأتي حاسمة في معناها الإنساني، تقدم إليك رأيا لم يقله إلا في النهاية بعد أن رأيت وشبعت من التصوير! عبارات بعد التصوير باللغة تختصر الحكاية وتظهر حكمة كاتبها. كنت أسأل نفسي كثيرا لماذا لم يكتب أسعد طه روايات وهو يمتلك هذه اللغة الصورية؟ لقد جذبته الصورة السينمائية ومن ثم كان لا بد يوما أن يكتب ما خلفها من حكايات. سراييفو تشغل المساحة الأكبر من الكتاب فكلما غابت تعود أيام الحرب بين البوسنة والصرب، ترى الرصاص يترصد بك من فوق البنايات كما يحكي، وتدهشك المشاهد الإنسانية حين يتبادل الجنود من الطرفين بعض الأكل، أو يسمحون لطفل من الصرب أن يمر بين البوسنيين ليرى أباه ويعود أو العكس، ثم يتبادلون الرصاص بعد الحديث. أسعد طه حين يتحدث عن عشق المدن تكون سراييفو هي عشقة الأكبر، ويلخص هذا العشق مختتما إحدى الحكايات الأولى «عليك أن تعمل الصالحات حتى تدخل الجنة في الآخرة، أما في الدنيا فيمكنك الذهاب إلى سراييفو». لقد عشقها منذ يوم انعتاق البوسنة عن يوغسلافيا والمؤتمر الأول لحزب العمل الديمقراطي الممثل للمسلمين، وفوز علي عزت بيجوفتش الخارج من المعتقل برئاسة الجمهورية الجديدة، ويومها افتُتحت الحرب ضد البوسنة.
وينتقل إلى رواندا والحرب الأهلية التي بدأت عام 1990 ومشاهد القتلى والمساجين من النساء والأطفال والكبار المتروكين للموت. وينتقل إلى الشيشان وكازاخستان وسمرقند، وغيرها من الدول الإسلامية التي انشقت عن الاتحاد السوفييتي، ويمشي بينها والموت يحاصره، وصور الموت تحاصر القارئ، وينتقل إلى أمريكا الجنوبية والانقلابات في تشيلي وفنزويلا والحروب بين الفصائل المختلفة.
من موت إلى موت وهو يرحل ويصنع أفلامه ويقابل الرؤساء والقادة والناس العاديين، والضحايا فقط لا يتكلمون، لكنه ينقل صورهم إليك كأنهم أحياء تراهم ويدهشه هو صانع البرامج والأفلام كيف يرى الصحافيون كل هذا الموت بقلوب باردة، أو مهنية فائقة، كأنما هم ليسوا في الجحيم، رغم أنهم قد يصيبهم ما أصاب أهله. ربما كان هذا الكتاب هو تعليقه الذي لم يستطع أن يقوله في الأفلام الوثائقية التي تتوخي الحياد، بل هو كذلك يناقش هذا وغيره مما يصلح أن يكون درسا لشباب الصحافة والإعلام. وحين ينتقل بك إلى الحرب الأهلية في رواندا، يدخل بك السنغال وجزيرة جوري التي كانت ميناء تصدير العبيد إلى أمريكا يوما ما منذ ثلاثة قرون، وبالتالي تجد نفسك بعد ذلك في كينيا والعاصمة نيروبي، وقبل هذا كله بعامين كان في جنوب السودان. ويأخذك إلى العراق بعد سقوط صدام وسجونه السرية، وإلى آسيا حيث التبت والدالاي لاما وغيرها. وبعيدا عن تعداد الأماكن التي ستملأ المقال لأنها في العالم كله ففي كل مكان زاره صراع من نوع ما، وفي كل مكان زاره سجون ومعتقلات ونساء يتم اغتصابهن وأطفال قتلى. يتعرض هو نفسه ومن معه أكثر من مرة إلى الحبس، وكثيرا ما يكونون مصدر شك، فيتم ترحيلهم ولا تتم هذه الحالات كلها بطائرات أو سيارات مناسبة، فكثيرا ما كانت طائرات تمتلئ بالناس كأنها حافلة أو سيارات قديمة، ويصف لك كل الرحلة كأنك تراها ببؤسها وبضحكها. الكتاب الذي تبدأ فيه لا تتركه فهو في عشق المكان والمدن بتراثها المعماري وأهلها، رغم الأهوال، وهو أيضا دروس مهنية وحياتية لمن يشاء دخول هذا الطريق وهو في الحقيقة ليس مجرد حكايات، بل هو عمل أدبي رائع بين السيرة والرواية، رغم أن كل ما فيه حقائق. هي فقط حقائق تفوق الخيال وجدت من استطاع تصويرها والحكي عنها. أعني به أسعد طه مؤلف هذا الكتاب الاستثنائي وصاحب هذه التجربة الجبارة في بلاد الله.
٭ روائي من مصر