(1)
هناك في الطرف الأقصى من العالم، لا شيء سوى البرد القارس، وجبال شديدة الانحدار، وغابات الصنوبر، ودببة نائمة، وذئاب جائعة، هل يمكن للمرء حقًّا أن يعيش هنا؟ عائلة “ليكوف” فعلتها.
(2)
في مقاطعة تيومين، الواقعة بالقرب من سيبريا، تعيش عائلة “كارب أوسليبوفيتش ليكوف” في رفقة أربع عائلات بجوار نهر، معتمدين على الزراعة، مستمتعين بحياة مستقرة وهادئة، إلى أن وصل البلشفيون في ثلاثينيات القرن الماضي إلى السلطة في روسيا، معلنين الإلحاد، مطاردين المتدينين، معاقبين كل أرثوذكسي يصر على البقاء مسيحيًّا، ومنها عائلة “ليكوف” التي ما وصلت القوات السوفيتية إلى قريتهم، حتى أمرت أهلها بالمغادرة، وقتلت أخا رب العائلة “كارب”.
تضيق الأرض عليه وعلى عائلته، ويقرر وزوجته أن يفرَّا بطفليهما “سافين” و”ناتاليا”، بعد أن جمعا ما استطاعا حمله من حاجياتهم وبذور زراعية، وانطلقوا في رحلتهم نحو بقعة آمنة خالية من البشر.
تسوقهم خطواتهم إلى غابة التايجا المقفرة الجليدية، الواقعة في نقطة معزولة تربط ما بين سيبريا وأقصى الشمال من الحدود الأمريكية الشمالية، يقررون الاستقرار هناك بالقليل الذي يملكوه، بعد أن عثروا على ما يشبه الكهف أو الكوخ المنحوت في الصخر.
يحرقون الأخشاب للحصول على الدفء، ويزرعون في الصيف ما يمكن أكله في بقية الفصول، لتمر أربعة أعوام على هذا الحال من الحياة البدائية القاسية، ينجبون خلالها ديمتري، وبعده بثلاث سنوات ابنتهم أجافيا، ليصبح تعداد العائلة ستة أفراد.
(3)
يعيش الطفلان ديمتري وأجافيا واحدة من أغرب القصص البشرية، فكلاهما لم ير أي شيء يخص البشرية وعمرانها، العالم بالنسبة إليهم هو هذا المكان الذي يعيشون فيه، وحَسَب ما يسمعان من والديهما فإن هناك في مكان ما مدنًا وقرى وبشرًا وحكومات وعوالم وحكايات، لكنهم لا يرونها، وليس مقدرًا لهم الحياة فيها.
تعيش الأسرة في تلك العزلة على أمل أن يعود القيصر للحكم ذات يوم، فيصبح بمقدورهم العودة لحياتهم الطبيعية من جديد، لكن الحياة تمضي دون أن تصلهم أخبار عن ذلك، حتى اعتادوا على ما هم فيه.
تهتم الزوجة بتعليم أبنائها القراءة والكتابة، دون أن يدور بخلدها كيف سيستفيدون من ذلك، فاستعانت بكتب الإنجيل القديم التي حملوها في سفرهم، ليتعلموا من خلالها، وكانت تطلب من زوجها أن يستخلص لها أعواد خشب البتولا من الأشجار المحيطة لتصنع ما يشبه القلم، وكانوا يغمسونها في سائل زهر العسل كحبر للكتابة.
ظلت العائلة لسنوات معتمدة على الأدوات التي أحضرها أفرادها معهم من منزلهم لاستخدامها في الطهي وتخزين الطعام، لكنها بمرور السنوات أصابها الصدأ بشدة، وصارت غير صالحة، مما دفعهم للاعتماد على خشب البتولا المتوافر بكثرة في الأشجار المحيطة لصنع ما يشبه الأوعية لصنع الطعام أو تخزينه وحفظه من الحشرات.
تمر السنوات ويبلغ ديمتري عشرين عامًا، العائلة في ظروف صعبة للغاية، فهي على وشك أن تهلك بعد أن نفد كل ما لديها من بذور زراعية، يقدم ديمتري على صيد الحيوانات باعتبارها مصدرًا جديد لإطعام العائلة، ورغم افتقاده وسائل متطورة للصيد كالأقواس أو الأسلحة، إلا أن ما قرأه في الإنجيل عن نصب الفخاخ كان ملهمًا له.
تارة يحفر فخًّا ويغطيه بأوراق شجر، وتارة يطارد الفريسة حتى يصيبها الإرهاق وتضعف سرعتها فيمسك بها، بهرت عائلته قدرتُه على تحمل الصيد في هذه الأجواء شديدة البرودة، يخرج ويغيب عدة أيام ليعود ومعه فريسته الجديدة، فيما العائلة تقتات على أوراق الشجر، أو أي نبات ينمو في المنطقة.
(4)
على الجانب الآخر من العالم كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت، وتشكل عالم جديد، فانهارت دول وقامت أخرى، لكن العائلة لا تعرف أي شيء عما يجري.
وفيما كان الوالد يصيبه الضعف بفعل العمر، كان ابنه يبدو أكثر تمسكًا بالقواعد الدينية التي تؤمن بها الأسرة، وكان يظهر صرامة وغلظة في تنفيذها مع الجميع بصورة جعلت والده يقلق من تولي نجله مقاليد أمور الأسرة بعد وفاته.
في الوقت نفسه كانت ناتاليا أقل اهتمامًا بما يدور حولها، حيث اكتفت بأداء دورها الطبيعي في الأسرة دون أن تمتلك شيئًا مميزًا أو فارقًا، فيما تميزت أجافيا الابنة الأصغر والأخيرة في تلك الأسرة بصوت للحديث كأنه نغمة موسيقية يمتد ويطول في الكلمات حتى يخيل للمستمع أنها لا تجيد الحديث، أو أنها تعاني من أزمة في النطق، فيما كانت الفتاة بطبعها تحب الكلام بهذه الطريقة وتستمتع بذلك حتى صارت طبيعتها.
ومع شتاء عام 1961 تصبح الظروف أكثر صعوبة، والأم أكولينا أقل قدرة على التحمل، بعدما كان قرارها في كل مرة التخلي عن نصيبها من الطعام لأجل أطفالها، والنتيجة أنها ماتت في ذلك الشتاء دون أن يستطيع صيد ديمتري المتكرر أن يساعدها، تملك الذعر بقية أفراد الأسرة من أن يكون مصيرهم كمصير أمهم، فتناولوا لحاء الشجر الذي وضعوه على أجسادهم وأقدامهم، وظلت حياتهم على ذلك النمط القاسي من الحياة في السنوات التالية دون أن أي بادرة أمل للنجاة.
(5)
يحل العام 1978 وتصل مجموعة من الجيولوجيين إلى منطقة قريبة من محل إقامتهم، وكانت المفاجأة أن طائرتهم المروحية عثرت على كوخ يقطن فيه بشر، وهو ما كان حدثًا غريبًا ومفاجئًا باعتبار أن ما حولهم من أميال بعيدة من كافة الاتجاهات خالٍ تمامًا من الحياة البشرية.
المفاجأة الأخرى أن مكان إقامة العائلة لا يبعد سوى 150 ميلًا عن أقرب منطقة حضارية، كما أن الحكومة السوفيتية ليس لديها أي سجلات عن أحياء في هذه البقعة المقفرة، وهو ما جعل وجودهم في ذلك المكان حدثًا غريبًا.
يقرر الفريق الاستكشافي المكون من أربعة باحثين في ذلك الوقت الذهاب إلى تلك الأسرة للتعرف عليها، حاملين هدايا لهم، متسلحين بمسدسات تحسبًا لأي مفاجأة.
يصل الفريق إلى الكوخ المصنوع من القماش المسود شبه الممزق، يخرج لهم كبير العائلة “كارب” وهو مترقب وخائف، وحافي القدمين، ويرتدي قميصًا وبنطالًا مرقعين، فألقى القادمون السلام عليه، لكنه ظل صامتًا يحاول استيعاب ما يرى أمامه.
أصيبت الأختان أجافيا وناتاليا بالهلع والخوف وبدأتا في البكاء والنحيب حينما رأيا ذلك الفريق، ظنًّا منهما أنهم من البلشفيين، وأنهم عثروا عليهم لقتلهم وعقابهم، وظلوا يرددون: “هذا من ذنوبنا، هذا من خطايانا”.
لم تهدأ العائلة إلا حينما قرر الجيولوجيون التراجع والصمت قليلًا، عارضين على العائلة بعض أنواع الطعام كالشاي والخبز والمربى، لكنها جميعها بدت للعائلة أمورًا غريبة لم يجربوها منذ قرابة أربعين عامًا، فرفضوها جميعها.
(6)
قرر الفريق أن يبتعد ويجعل تعامله مع تلك المجموعة على زيارات متباعدة تهدأ فيها النفوس تدريجيًّا، ويصبح بإمكان العائلة أن تطمئن أكثر للتعامل معهم، وبعد زيارات قليلة وقدرة على فتح الأحاديث تمكنوا من معرفة الحكاية بأكملها، متى بدأت، ومتى رحلوا من بلادهم إلى هنا، وكيف ظلوا طوال الأربعين عامًا المنقضية لا يعرفون شيئًا عن العالم وما يحدث فيه.
استمرت محاولات الفريق ثلاث سنوات كاملة، يعرضون عليها خلالها المساعدة بكافة الطرق المتاحة، مثل اصطحابهم إلى المشافي، والعودة إلى الحضارة، والحصول على حياة مناسبة وطعام وملابس وعلاج وغيرها من الأمور، لكن العائلة كانت ترى أنها عبرت تلك المرحلة، وأنها لن يكون بمقدورها الخروج من تلك العزلة.
والنتيجة أنه بحلول عام 1981 يتوفى كل من سافين وناتاليا بسبب الفشل الكلوي، فيما أصيب ديمتري بالتهاب رئوي رجح وقتها أنه كان نتيجة عدوى من أحد أعضاء الفريق، الذين عرضوا عليه وأصروا على اصطحابه بالطائرة إلى مشفى للعلاج، لكنه رفض ومات بالفعل في وقت قليل، لتفقد العائلة 3 من أعضائها دفعة واحدة.
(7)
كان ذلك التتابع القاسي للوفيات سببًا في إصرار الفريق على عودة العائلة، وإخبارهم أن الكثير من أقربائهم يعيشون في قراهم القديمة الآن، لكن ما تبقى من العائلة وهو الأب كارب وابنته أغافيا وجدا أنه فات الأوان على ذلك، فساعدهما الفريق بتحسين مكان سكنهما، وجعلوه مناسبا للحياة بشكل أفضل، حتى توفى كارب في العام 1988 وهو نائم.
ظل العضو الأخير من العائلة وهي أغافيا على قيد الحياة لعقود بعدها، حتى بلغت عام 2016 ثلاثة وسبعين عامًا، وقد أقدمت على ما اعتبر مفاجأة، حينما قامت بالاتصال بهاتف يعمل بالأقمار الصناعية حصلت عليه من فريق العلماء، لتطلب المساعدة الطبية بسبب ألم حاد في ساقها، فنقلت جوًّا بالطائرة إلى أحد المشافي، لكنها أصرت على العودة مرة أخرى إلى منزلها المعزول.
لاحقًا في العام 2021 يتطوع أحد رجال الأعمال الأثرياء الروس ببناء منزل فخم لها في تلك المقاطعة المعزولة، لتعيش فيه بشكل أفضل، لكنها رفضت ذلك معتبرة أن هذا النوع من حياة الرفاهية المبالغ فيها لا يناسبها، ولا تزال أغافيا على قيد الحياة حتى هذه اللحظة، وتعد واحدة من أقدم الشاهدين على التاريخ الروسي القديم والحديث.