عندما تسافر الفتيات إلى أفريقيا – (1)
(1)
أكره الحرَّ، وأخشى الحشرات حتى التافه منها، وبالطبع ترعبني الحيوانات، ويصيبني السفر برا بالدُّوار، وتزعجني إجراءات التخييم، رغم ذلك فإني أخطط لرحلة تدوم 40 يوما في أدغال أفريقيا، مع مجموعة من الناس ألتقيهم أول مرة، أنا الوحيدة بينهم المسلمة من أصول عربية، نسافر من دولة إلى دولة، ونقضي أيامنا في الطريق، وليالينا في الخيام، لا أعرف كيف سيكون ذلك، ولا كيف سأستحم، ولا كيف سأؤدي صلواتي! إلا أن هذا ليس كل ما في الأمر، هناك ما هو أخطر.
(2)
أُصِبْتُ بالسرطان، وبعد شهرين من المعالجة الكيميائية، قرر والدي أن يصطحبني إلى فيينا قبل بدء الجولة الثالثة من العلاج، ليبعدني عن لندن فترةً، كانت الرحلة رائعة، ليس فقط لأنها كانت المرة الأولى التي أسافر فيها مع والدي وحدنا؛ بل أيضا لأنها المرة الأولى منذ زمن طويل التي أشعر فيها بالرغبة والحاجة إلى الاستكشاف، لا يمكنني وصف الأمر، لكن ما أعرفه هو أني استعدت ومضة الحياة، وعرفت لِمَ تستحق أن نحياها.
قضيت عددا لا يُحصى من الساعات بين الكتب ومواقع الإنترنت، باحثة عن رفيقة سفر تريد الترحال في أفريقيا، وفي توقيت يوافق خطتي، كل الردود كانت تأتي من رجال، أخيرًا صادفت وكالة سفر تنظم رحلات جماعية من نوع خاص إلى جميع أنحاء العالم، لا فنادق فيها ولا رفاهية، اصطحبت أختي، وتوجهنا إلى هناك لمناقشة الخيارات التي يقدمونها.
لا أستطيع أن أصف لكم حالة التردد الفظيعة التي أعقبت ذلك، قلّبت كل مخاوفي في ذهني، وملأني شعور بأن هذه أكبر مغامرة خطرة أخوضها في حياتي (أخطر حتى من لحظة توقيعي لأوراق الموافقة على العلاج الكيماوي التي ذكرتْ خطر الموت من بين أعراضه)، وفي الوقت نفسه فإن حياة لندن باتت لا تُحتمل بالنسبة لي، حيث كل شيء مرتبط بالمستشفى وبمرضي السابق، أصبح لدي رهاب من الازدحام، وأختنق منه في هذه المدينة التي يرغب معظم سكان العالم بزيارتها، كان من الضروري أن أغادر ولو لفترة وجيزة على الأٌقل.
فكرت أن الطريقة المثالية والمريحة للسفر، بغض النظر أني لا أتحمل كلفتها الباهظة، فإنها لن تؤتي ثمارها المرجوة، وأنه قد حان وقت المغامرة، حفَّزت نفسي بأني سأحيي جذوة حبي القديم لفن التصوير الذي هجرته قبل سنين، وهل هناك أفضل من أن أفعل ذلك في أفريقيا؟ إذن لن أدع شيئا يعوق خطتي، سأفعلها يعني سأفعلها، هكذا قلت لنفسي، وهكذا حسمت أمري واشتريت بطاقة السفر.
ثم جاء اليوم الذي تسلمت فيه حقائبي وأمتعتي في المطار، وخرجت من البوابة لأجد نفسي في كيب تاون بجنوب أفريقيا، كان ذلك هو اليوم الذي تلاشت فيه مخاوفي، وحل محلها سلام وسكينة لم أشعر بهما من قبل، لتبدأ رحلتي.
(3)
كانت جنوب أفريقيا أبهى مما تصورت، تجنبت من قبل البحث عن صورها كي لا أحمل أي نوع من التوقعات قبل الوصول، تسارعت ضربات قلبي مع الإثارة والعصبية التي شعرتُ بها؛ فقد كنت في طريقي لأقابل أخيرا شريكة خيمتي والمجموعة التي سأسافر معها 40 يوما المقبلة.
الشعر متسخ، والثياب ممزقة، ويبدون كما لو لم يستحموا منذ أيام.. هكذا تخيلت المظهر الذي سيكون عليه زملائي، بعد أن وصلت في وقت مبكر إلى الفندق الذي سيكون نقطة انطلاقنا، سألت موظف الفندق إذا كانت الفتاة الجالسة على الأريكة تنتمي إلى مجموعتي، فرمقني بنظرةٍ مُحبطةٍ وأجاب: «أجل، إنها تجلس هنا منذ الصباح تستخدم الإنترنت، ماذا جرى لهذا الجيل الجديد؟».
أدركتُ على الفور أنَّها من أستراليا بسبب لهجتها، وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث لفترة من الوقت دعتني إلى الانضمام لها ولصديقتها لرؤية جبل الطاولة (Table Mountain). أحضرت زجاجة من الماء، وكل ما عندي من معدات التصوير، والشوكولاتة أيضا (كما لو أن هذا مهم جدا)؛ لكني كنت مفعمة بطاقة غريبة يبدو أن مصدرها أني لم أنم منذ يومين.
كانت «جو» -وهي فتاة أخرى من مجموعتنا- قد عادت لتوها من الغوص مع أسماك القرش، بَدَت قصتها جنونية، فهي من هذا النوع من الفتيات الذي يسعى إلى المغامرة أينما استطاع، كانت قد سافرت إلى أكثر من خمسين بلدًا، أمَّا «ليندسي» (الفتاة الأسترالية) فهي على النقيض تماما، انطوائية تعشق الهدوء، وتتمتع بما يُحيط بها من مناظر، وتحتفظ بمساحتها الشخصية.
يبلغ ارتفاع «جبل الطاولة» 1085 مترا، وكان طابور الانتظار يبدو بالطول نفسه تقريبا، استغرق الأمر منَّا وقتا طويلا في الانتظار، إلى درجة أنَّنا حين وصلنا إلى أعلى نقطة في الجبل لم نقضِ سوى 5 دقائق معا، قبل أن نضطر إلى العودة إلى الأسفل مرة أخرى لحضور الاجتماع التعريفي بمجموعتنا.
ولكن فجأة وأنا على أعلى الجبل، أضاءت في عقلي خاطرة: أنا هنا فعلا، أنا أسافر أخيرا، بعيدا عن كل شيء، وأنا وحدي، بلا عائلة أو أصدقاء أعتمد عليهم؛ بل مع غرباء أتعرف عليهم للمرة الأولى.
(4)
لاحقا التقيتُ شريكة خيمتي، وهي فتاة كندية تبلغ من العمر 18 عاما، كان أوَّل رد فعل لي هو أني سأتقاسم خيمة مع فتاة في عمر أخي الأصغر؛ لكني أدركت فجأةً زلَّتي الأولى: الحُكم على شخصٍ دون أن أعرفه جيدا.
كنا في أعمار مختلفة تتراوح بين 18 إلى 35، بيننا مجموعة أزواج تركوا وظائفهم لأجل هذه الرحلة، وأزواج كانوا على سفرٍ في الأشهر القليلة الماضية، وهذه الرحلة هي مجرد مرحلة، وكان هناك أصدقاء تقابلوا في رحلاتٍ سابقةٍ، وآخرون مثلي في بداية المغامرة.
كنَّا 14 فتاة و7 أولاد من جنسيات متنوعة: بيننا الألمان، والأستراليون، والنمساويون، والسويسريون، والبريطانيون، والكنديون، والأميركيون، والدانماركيون، وبعد ذلك كنت أنا هناك: المصرية البريطانية الوحيدة في المجموعة، وبالطبع كنت الوحيدة التي ترتدي الحجاب بينهم، وتمنيتُ لو لم يُصدر أحد أحكاما عليَّ بسبب مظهري، في الاجتماع الأول أعلنت الإدارة قواعدها، ومن بينها أنه لا يُمكن التسامح مع أي شكل من أشكال التمييز، فاطمأن قلبي.
«كولين» القادمة من جنوب أفريقيا هي المرشدة السياحية لمجموعتنا، و”ولوزيندا” هي سائقة شاحنتنا، وهي من ناميبيا، لديهما تشابه في لهجاتهما، وفي طريقة ارتداء الملابس: بنطال قصير وتي شيرت، وتقفان وتتحدثان بطريقة واثقة جدا ورجولية قليلا، أشعر بالفخر، ولا أشعر بالقلق بتاتا من أن امرأتين سوف تقوداننا عبر أفريقيا مدة 40 يوما.
في اليوم التالي استيقظنا في السادسة صباحا، ثم بدأنا إنزال الخيام، ووضع حقائب الظهر في الشاحنة، وتناول الإفطار، ثم حزم الأمتعة والانطلاق إلى الطريق.
«أوغسطس» هو اسم شاحنتنا، كنت أتخيل أنَّها ستكون أصغر من ذلك بكثير، فلم أكُن أتصور أنها ستحتوي على كل هذا العدد من المقصورات: مقصورة للأمتعة، وأخرى للخيام، والبقية لأواني المطبخ والطعام.
غادرنا الفندق في السابعة صباحا، وخرجنا من كيب تاون في غضون ساعة، توجهنا إلى مرتفعات (Highlanders Vineyard)، التي يديرها رجل طيب يُدعى «سباركي»، وزوجته، وابناهما، كان المشهد لا يصدق في طريق رحلتنا، أميال وأميال من المناظر الطبيعية النقية التي بَدَت كأنَها ستستمر إلى ما لا نهاية.
تعلمنا للمرة الأولى كيفية إعداد الخيام، ولن أخبركم كيف أنَّها ثقيلة حقا! استغرق الأمر وقتا طويلا والكثير من الممارسة لإنجاز تلك المهمة، والحمد لله أننا كنا نخيِّم على العشب، وليس على الرمال، لكني كنت أول شخص يمرض في اليوم الأول من الرحلة.
في هذا المكان كانت منطقة الاستحمام بديعة، فهي عبارة عن حفرةٍ على شكل مربَّع، كما لو كانت نافذة بلا زجاج، والمستحِمّ سيتمتع تحت الماء الذي يطل على مشهد رائع من الجبال والمناظر الطبيعية، وقيل لنا: هذه هي أفضل أماكن استحمام سترونها طوال الرحلة، وقد كان.
أعدت «كولين» و«لولو» لمجموعتنا في هذه الليلة نارا تُدفئنا؛ لأنَّ درجة الحرارة كانت قد انخفضت كثيرا، وأعطتنا بعض المعلومات عما سيحدث في اليوم المقبل، وبعد العشاء تحلَّقنا حول النار وتناولنا «المارشملو»، تلك الحلوى التقليدية.
قبل النوم نظرت إلى السماء وأدركت أنَّ هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا العدد الكبير من النجوم.. ما كل هذا الجمال الذي كنت غافلةً عنه؟
ذهبت إلى النوم في خيمتي، وقد دخلت فيما يعرف بحقيبة النوم الخاصة (Sleep bag) التي من المفترض أن تبقيني دافئة عندما تكون درجة الحرارة صفر، ويُمكنني القول: إنها لم تفعل. لكن للحظة أدركت أنَّ هذه هي بداية مغامرتي رسميا، وأن اليوم الأول قد انتهى بالفعل، ولاحقا عرفت أن المغامرة الحقيقية كانت بعد ذلك، وهو ما سوف أحكيه لكم في المرة القادمة.