(1)
يدفع الأطفال ثمن حروب لم يُشعلوها، والأنكى أنهم يُجنَّدون فيها ليكونوا الضحايا والجناة، لكن يبدو أن حكاية سيرجي مختلفة، حتى إنه عُدَّ أصغر جندي في تاريخ الحرب العالمية الثانية، أو فيما سماه السوفييت “الحرب الوطنية العظمى للدفاع عن روسيا أمام الغزو النازي”.
(2)
قرية فقيرة تدعي غريّن Gryn، وهي جزء من مقاطعة سوفيتية كبيرة تدعى كالوغا Kaluga، تضم عددًا كبيرًا من القرى، وتقع في الجنوب الغربي للعاصمة موسكو، على بعد منها يزيد عن مائة كيلو متر.
ولأن للقرية طابعًا حدوديًّا، فقد منحها ذلك أهمية قصوى لطرفي الحرب، فالسوفييت من جانب اعتبروها نقطة دفاعية هامة لوقف التوغل النازي، والألمان من الجانب الآخر اعتقدوا أنها نقطة مفتاحية لشق الطريق نحو العاصمة موسكو.
ستالين، على رأس الاتحاد السوفيتي، له إستراتيجية حربية خاصة، وهي اعتبار القرى المأهولة بالفلاحين قواعد دفاعية، وتحويل المزارعين إلى مقاتلين، يمدهم ببعض الأسلحة، وتتركز مهمتهم في تشكيل حصون لصد الأعداء، وفي حالات خاصة جدًّا تقدم لهم المعونة العسكرية، وبذلك يُخَفِّف الضغط قليلًا عن جيشه.
(3)
أما بطل حكايتنا، فتختلف الوثائق السوفيتية في تاريخ ميلاده، طفل يدعى سيرجي أليتشكوف Sergy Alichickhof، أو سيريوزا Seryoghzaكما كان أهله ينادونه، فالبعض يرجح ميلاده في العام 1934، فيما ترجح مصادر أخرى أنه ولد في العام 1936.
على كل حال لم يكن في حياته شيء يذكر قبل الواقعة المشهودة، سوى أنه في بدايات إدراكه لما حوله كانت الحرب تحيط بالأجواء حتى صار ابنًا لها دون أن يدري.
ذات صباح صيفي في العام 1942 تتحرك القوات النازية باتجاه قرية غريّن، حيث يعيش سيرجي مع والدته وأخيه الأكبر بيتر، بعد أن توفي والده قبل الحرب.
يهاجم النازيون القرية، يتحركون بين المنازل تمشيطًا لها وبحثًا عن أي مقاومين مسلحين،
يُعملون القتل في سكَّانها، فيسقط أخوه بيتر قتيلًا بالرصاص، وتُعدم والدته شنقًا.
يجري ذلك كله فيما الطفل سيرجي نائم في سريره لا يدري عما يجري شيئًا، إلى أن تهرع جارة نحو منزله لتوقظه من نومه لتهرب به.
تحاول جارته إقناعه بأن يتحرك سريعًا للهرب معها من المنزل، لكن الفتى غير مقتنع بالرحيل، يطلب منها انتظار والدته وأخيه، يستمر السجال بينهما والطفل متشبث بعناده، حتى يطفح الكيل بجارته وتضطر لإخباره وهي تبكي بأن والدته وأخاه قد قتلا بيد الأعداء، وأنها جاءت لتصحبه مع أطفالها حتى لا يلقى المصير نفسه.
يتلقى سيرجي الخبر وعقله لا يدرك كلية ما يحدث، لكن الوقت يباغتهم والعدو لن ينتظر كثيرًا، تسمع الجارة وقع أقدام الجنود وقد اقتربوا من المنزل، تركض وهي حاملة له نحو نافذة المنزل المطلة على الباحة الخلفية، تخرجه من النافذة وهي تدعوه إلى الهرب والنجاة بنفسه، تخبره أن يعدو فلا يتوقف وإلا قتله الأشرار، يتملكه الهلع، ينطلق في نفس اللحظة التي تستقر رصاصة نازية في قلب الجارة من الخلف فترديها قتيلة.
(4)
يركض سيرجي في الغابة دون أن يدري مما يهرب وإلى أين، كل ما يدركه عقله الصغير أن ثمة أشرارًا سيقتلونه إذا عثروا عليه، يصيح في كل الاتجاهات على أمه في انتظار ظهورها من مكان ما لإنقاذه، يتعرض للإصابات جراء السقوط هنا وهناك، تلدغه الحشرات في قدميه وذراعيه، يصيبه الجوع بشدة، فيأكل من أول زهرة يراها أمامه دون أن يعرف إن كانت تصلح للأكل أم لا، يجد علبة طعام شبه فارغة تركها جندي على الأرض فيحاول التهام ما تبقى بها.
يظل طفلنا على هذا الحال وقد تشققت شفتاه من الضعف وقلة الطعام وهزل جسده وصارت حالته مأساوية، إلى أن يسقط من الانهاك، متمددًا تحت شجرة ضخمة، ولحسن حظه فقد بات دون أن يعلم بالقرب من إحدى نقاط الوجود العسكري السوفيتي.
لاحقًا يتحرك بضعة جنود سوفييت لتمشيط المنطقة خشية التعرض لهجوم مباغت، يتصادف أحدهم بسيرجي المنهك الغائب عن الوعي، يحمله بين ذراعيه ويتحرك به سريعًا نحو قاعدته العسكرية.
يشعر الجميع بالتعاطف مع الفتى، وتحركهم مشاعر الشفقة لنجدته بأي طريقة، بعدما ظهر الإعياء الشديد على محيَّاه وملأت التقرحات والجروح جسده المنهك.
اللقاء الأول بين سيرجي وبين الرائد ميخائيل فوروبيف Mikhail Vorobiev يبدو صادمًا، فحالة الطفل أشعلت الغضب بداخله إلى أقصى حدٍّ، يود لو يمسك في هذه اللحظة بعنق أول نازي يقابله ويمزقها.
يلتف الرائد والجنود حول سيرجي، يقدمون له الطعام والماء حتى يستعيد عافيته، يحاولون سؤاله عن اسمه، لكن الطفل البادي عليه الصدمة والخدر، لا يستطيع الإجابة، إلى أن يسأله أحدهم عن والدته، فيبدو الأمر وكأن أحدهم نكأ جرحًا غائرًا داخله، يبكي الطفل بشدة ويقول: إن جارتهم قالت له: إنَّ أمه قد ماتت.
يقرر الرائد أن يبقى سيرجي داخل المعسكر كطالب في فوج حرس المشاة 142 التابع لفرقة الحرس المقاتلة 47، وينقل إلى المشفى الميداني داخل المعسكر ليحصل على العناية الطبية على أمل التعافى ممَّا لحق به.
يهتم الجميع بالفتى، هذا يمازحه، وهذا يحضر له قطعة حلوى، أو يريه كيف يمسك سلاحًا، ليتحول مع الوقت إلى محبوب الجميع داخل المعسكر، لكنه يتعلق أكثر بالرائد ميخائيل وبالممرضة نينا بيدوفا Nena Bedova التي تعتني بحالته الصحية.
(5)
يتعقَّد الموقف بعض الشيء، لا يمكن للطفل أن يبقى في المعسكر؛ لأنه غير مناسب لسنه، ووصول خبر بوجوده إلى القيادة العسكرية في موسكو سيعني إصدار أمر بترحيله إلى دار أيتام في العاصمة لتعتني به، لكن شيئًا ما كان قد تحرك بالفعل داخل قلب الرائد ميخائيل، ليُقرر تبني الطفل حتى يستطيع الدخول في مواجهة أي قرارات تصدر من موسكو، تجنبًا لترحيل الطفل إلى ملجأ للأيتام في موسكو.
صحيح أنَّ الحرب تقسي القلوب وتجعل الحياة جافة لا يحركها سوى الرغبة في النجاة أو النصر، لكن الحب قد ينشأ في وسط هذا الظلام، يخبر سيرجي الرائد ميخائيل بأنه أحب الممرضة نينا، ويتمنى لو أنها تصبح أمه، فيشعر الرائد أن القدر يرتب له تكوين أسرة لم يستطع تكوينها قبل الحرب، يتخذ قرارًا يفاجئ الجميع بالزواج من الممرضة نينا حتى تصبح قريبة من سيرجي.
يفكر الجميع لِمَ لا يرتدي سيرجي زيًّا عسكريًّا مثلهم بدلًا من ذلك الزي الأبيض الذي حصل عليه في المشفى! يأخذ خياط المعسكر زيًا ويبدأ في فكه وقصه ليكون مناسبًا لمقاس الفتى الصغير.
يرتدي سيرجي رداءه العسكري، ويشعر بالزهو والقوة وقد صار جنديًا بجسده الضئيل، لكنه لا يكتفي بزيه العسكري، بل يطالب بالحصول على بعض المهام حتى يصبح جنديًّا حقيقيًّا، يكتفي الضباط بتكليفه بنقل الرسائل والصحف وزجاجات المياه بين مكاتبهم حتى يشعر الفتى أنه يفعل شيئًا مهمًّا.
تحدَّث المفاجأة حينما يلمح الفتى خلال جولاته بين مكاتب الضباط أشخاصًا غرباء يختبئون عند شجرة قريبة من المعسكر دون أن يلحظهم أحد، يركض مسرعًا إلى مكتب القائد ليبلغه بما رآه، فيتحرَّك ومعه بضع جنود، ليكتشف أنَّ الغرباء المختبئين هم جنود من الجيش النازي، فيهاجموهم ويقضوا عليهم.
يتقلد الفتى موقعًا أفضل في نفوس أهل المعسكر، بدلًا من كونه مجرد طفل ينقل الرسائل بين المكاتب، ويحصل على ثنائه الحقيقي الأول من قائد المعسكر.
(6)
يتعرض المعسكر لقصف ألماني يطول مكتب الرائد ميخائيل الذي تبنَّاه، الجميع مشغولون بتبادل إطلاق النار مع العدو، لم يلحظ أحد أن الرائد بات تحت أنقاض غرفته التي قُصفت، يكتشف سيرجي ذلك عندما يرى والده تحت الأنقاض لا يستطيع الحركة أو الاستغاثة، يهرع إلى الجميع ليبلغهم بالأمر، فيتحرك الجنود لإنقاذ الرائد، وينجحون بعد جهد كبير في إخراجه وعلاجه، لتكون تلك هي المهمة الناجحة الجديدة في سجل سيرجي، ويحصل حينها من قائد المعسكر على ميدالية الاستحقاق العسكري، ليصبح أصغر جندي في تاريخ روسيا يحصل عليها، كما يحصل على مسدس هديةً وتقديرًا لشجاعته.
(7)
الثامن عشر من نوفمبر/كانون الأول عام 1942 يفرض الألمان حصارًا خانقًا على مدينة ستالينغراد رغبة في الوصول إلى موسكو وإعلان السيطرة على الاتحاد السوفيتي لتكون الضربة الأكبر في الحرب.
يشارك الفوج 142 بقيادة الرائد ميخائيل في معارك حماية المدينة وسيرجي بصحبته، يصاب إصابته الأولى بطلقة طائشة في قدمه، ينقل على إثرها للمشفى للتعافي، ثم يعاد مرة أخرى إلى والده على الجبهة.
يستمر الفوج بالقتال حتى تتحرر المدينة، فيغادرها إلى جبهة عسكرية هادئة من المواجهات، أما والدة سيرجي الممرضة نينا فترحل عن الجبهة حتى تضع وليدها.
يحل الثامن من مايو/أيَّار لتتلقى ألمانيا هزيمتها القاسية وينتحر هتلر في مخبئه السري، وفي الثاني من سبتمبر/أيلول تعلن اليابان استسلامها غير المشروط، ويُسدل الستار على الحرب الأكثر دموية في التاريخ.
يسافر ميخائيل في رفقة زوجته وأبنائه إلى مدينة تشيليابنسك Chelyabinsk الروسية ليحصلوا على حياة هادئة، ويحصل سيرجي على ميدالية تكريم بمناسبة الانتصار على ألمانيا.
يطلب الجنرال الروسي فاسيلي شويكوف Vasily Chuikov من سيرجي أن يذهب للدراسة في المدرسة العسكرية تولا سوفوروف Tula Suvorov فيوافق سيرجي ووالداه ويلتحق بالمدرسة بالفعل، وبعد التخرج منها في العام 1954 يلتحق بمدرسة القانون في مدينة خاركوف Kharkov.
يعود بعدها إلى مدينة تشيليابنسك ليعمل في مكتب المدعي العام الخاص بالبلدة، ثم يتركه ليعمل مستشارًا قانونيًّا لأحد المصانع الكبرى هناك، وبعدها يتزوج وينجب ولدًا وفتاة، وفي ذكرى مرور 40 عامًا على الانتصار، أي في العام 1985 يحصل على وسام الحرب الوطنية العظمى من الدرجة الأولى.
يظل سيرجي حيًّا مع أسرته حتى يرى أحفاده، وفي العام 1990 وبينما كان جالسًا في محطة الأتوبيس في انتظار الحافلة توافيه المنية، ليسدل الستار على واحدة من أغرب القصص الحربية في التاريخ.