(1)
هل صحيح من تبدأ حياته بعاصفة، تلاحقه العواصف طوال حياته؟ وهل صحيح أن القسوة تصنع فردًا ثائرًا؟ وهل صحيح أن المظلوم يرى الظالمين مهما تنوعت أسماؤهم على دين واحد، يستحقون المقاومة؟ يبدو أن الإجابة بنعم، ويبدو أن “رودولف” مثال على ذلك.
(2)
في عام 1927 يولد بطل حكايتنا “رودولف والش” في مدينة كويلي كويل، على بعد ألف كيلومتر من العاصمة بوينس أيرس، ليصبح ضمن الجيل الثالث لعائلة إيرلندية استقرت في الأرجنتين قبل سنوات طوال.
بعد ثلاث سنوات من مولده تتعرض البلاد لواحدة من أعنف موجات الكساد في تاريخها، ليعصف الفقر بأسرته، فتقرر إرساله إلى مدرسة داخلية في إحدى الكنائس الكاثوليكية، وهناك يعيش رودولف حياة يتعرض فيها لمعاملة قاسية على يد القساوسة والقائمين على المدرسة، ليتحول في وقت قصير إلى الفتى الغاضب الثائر.
يكبر وتنضجه الأحداث على قسوتها، ويتزايد اهتمامه بالسياسة وهو لا يزال في مرحلة المراهقة، وتتفتح مواهبه على كتابة القصص البوليسية.
(3)
يبلغ الرابعة عشرة من عمره، فيسافر إلى العاصمة بوينس أيرس للالتحاق بالمدرسة الثانوية، ينهيها وينخرط بالجامعة لدراسة الفلسفة، لكنه سرعان ما يتركها، ليلتحق بعدة وظائف، مرة ساعيا في مكتب، ومرة عاملًا في مصنع، وهكذا إلى أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فيعمل في التدقيق اللغوي، ليكون ذلك بوابته الواسعة إلى عالم الصحافة، فيعمل في مجلتين.
ولأن هوايته الأولى هي كتابة القصص البوليسية الغامضة، فإنه يقرر جمع ما كتب في مجموعة قصصية واحدة، ويتقدم بها لمسابقة يترأس لجنة تحكيمها الروائي الشهير جورج لويس بورجيس، ليمثل فوزه نقطة انتقال هامة في مساره المهني، يكللها بالزواج في منتصف العشرينيات، ويصبح بحلول عامه الثلاثين زوجًا وأبًا لطفلتين.
(4)
في غضون ذلك تتصاعد الأمور في الأرجنتين بسرعة، فالجيش بينه وبين الرئيس “دومينجو بيرون” خلافات حادة، إلى أن يستيقظ الناس صبيحة يوم السادس عشر من سبتمبر 1955 على خبر انقلاب عسكري، يسيطر بمقتضاه الجيش على الحكم.
وعلى غير المتوقع يبدي “رودولف” دعمه للانقلاب نكاية في حكم بيرون وما يراه من فساد، لكن بمرور عام على الانقلاب، ومع تصاعد العنف ضد المعارضين، يعود إلى موقعه الطبيعي رافضًا للعنف والظلم، ويبدو أن الصدفة قررت مكافأته.
يعتاد صاحبنا الجلوس في إحدى مقاهي العاصمة، ليلعب مع رفاقه الشطرنج، ويقضون وقتًا طويلًا في النقاش، وفي إحدى الليالي يصادفه ناج من مذبحة ارتكبها الجيش، ويتسبب ذلك في تغير حياته وانقلابها رأسًا على عقب.
يخبره الناجي بمجزرة ارتكبها الانقلاب في قرية “خوسيه ليون سواريز” صبيحة التاسع من يونيو/حزيران من العام 1956، حين ألقت السلطات القبض على مجموعة كبيرة من الرجال وقامت بإعدامهم في شوارع القرية بتهمة الانضمام إلى مجموعة معارضة للحكم العسكري الحالي، ودعم الحركة البيرونية؛ نسبة إلى الرئيس الأرجنتيني السابق بيرون.
يقرر رودولف عقد جلسات مطولة مع الناجي المجهول، وتسجيل كافة الشهادات التي يمتلكها عن المجزرة، ومن ثَمَّ يكتبها في مقالاتٍ صحفية، يبدأ نشرها في صحيفة (مايوريا)، لتحدث ضجة عنيفة في الشارع وفي أروقة الحكم.
(5)
تتفتح شهية رودولف أكثر، يقوم بجمع مقالاته في كتاب بعنوان “عملية المجزرة”، لكن الناشرين يخافون من طبع الكتاب بسبب القبضة الأمنية، فيكتب تعريفًا بحكاياته: “لقد كتبتها بشكل عفوي وفي خضم سخونة اللحظة، لكن الحكاية ستذبل في جيبي يومًا بعد يوم؛ لأنني أبحث في كل شوارع بوينس أيرس، ولا يرغب أحد في نشرها أو معرفة أي شيء عنها”.
لكن ناشرًا جريئًا يوافق في النهاية على خوض المغامرة، ورغم بعض الانتقادات، إلا أن كتابه اعتبر بمثابة افتتاحية لعالم الصحافة الاستقصائية.
يحل عام 1959، فيسافر صاحبنا إلى كوبا ليشارك صديقه الروائي الشهير جابريل جارسيا ماركيز وصحفيين آخرين في إطلاق جريدة حملت اسم “برينسا لاتينا”، ويظل هناك بضع سنوات حتى يعود إلى الأرجنتين في منتصف الستينيات، ويعمل بعدها في عدد من الصحف والمجلات حتى عام 1970.
وفي هذا العام يقرر الانضمام إلى إحدى حركات اليسار الثوري، كخطوة أخيرة من جانبه لمواجهة النظام العسكري الحالي، ويتولى دورًا قياديًّا في الحركة، ويُعنى بإعلام المعارضة، يعود بعدها بعامين بيرون من منفاه بعدما هدأت الجبهة السياسية بعض الشيء، ليخوض الانتخابات الرئاسية، ويفوز بمنصب الرئيس من جديد.
وما إن تنتهي ولايته بعد أربعة أعوام حتى تخوض زوجته الانتخابات وتفوز بمنصب الرئيس، لكن الجيش يعود فينقلب مرة أخرى على نتائج الانتخابات، ليصبح هذا الانقلاب هو الأعنف في تاريخ الأرجنتين، ويرتكب قادته مجموعة من أبشع جرائم الاختفاء القسري والقتل الجماعي.
(6)
يؤسس رودولف وكالة أنباء في عام 1976 للرد على عملية الحجب المعلوماتي التي مارستها سلطات الانقلاب، ويعمل على نشر الأخبار المؤكدة بين الناس بكافة الطرق الممكنة، سواء كانت شفهية أو مكتوبة أو ورقية، لتصبح وكالته مصدرًا للأخبار الموثقة الغائبة بحكم القبضة الأمنيَّة.
لكن تقع حادثة تراجيدية تزلزل حياته، ففي التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول من نفس العام تُحاصَر ابنتُه “ماريا فيكتوريا” رفقةَ زميل لها فيما عرف باسم “موقعة شارع كورو” ولا يجدان أي منفذ للهروب والنجاة، فيقفان أمام القوات الموجودة في الشارع، وتصرخ ماريا فيكتويا: “أنتم لن تقتلونا.. نحن من سنختار الموت”، ليطلق كلاهما الرصاص على نفسه ويسقطان قتيلين، هربًا من الوقوع في الأسر داخل السجون التي مثلت كابوسًا للكثيرين في ذلك الوقت.
يمر عام، وفي الخامس والعشرين من شهره الثالث، وبينما كان رودولف قد أنهى لتوه كتابة رسالة مطولة عَنونها بـ”رسالة مفتوحة إلى الطغمة العسكرية”، يفضح فيها النظام العسكري القائم، ويكشف العديد من فظائعه، ويطالب بإسقاطه من الحكم، يتفاجأ بمجموعة من الجنود يحاصرونه، يحاول مقاومتهم بمسدسه الصغير، تصيب رصاصته جنديًّا في كتفه، فيجتمعون عليه ويقيدونه ويقتلونه بالرصاص.
في اليوم التالي لمقتله، تُنشر رسالته في كافة أرجاء الأرجنتين، ويبدأ عدد كبير من الصحف تداولها ردًّا على اغتياله.
(7)
بنهايات عام 1983 يتحقق حلم رودولف، ويسقط الحكم العسكري في الأرجنتين، ويخضع ثلاثة من القيادات العسكرية للمحاكمة على الجرائم المرتكبة خلال فترة حكمهم، ويستمر بعدها لسنوات طوال مسلسل محاكمات أبناء النظام العسكري على جرائمهم، وتحديدًا في السادس والعشرين من أكتوبر/كانون الأول 2005 تلقي السلطات الأرجنتينية القبض على 12 عسكريًّا سابقًا بتهمة قتل رودولف، ويحكم عليهم بأحكام مغلظة.
تصبح ابنته الصغرى باتريشيا قائدة سياسية مهمة، ويتحول كتابه عن المجزرة إلى فيلم سينمائي، ويتوج رودولف باعتباره المؤسس الأهم لعالم الصحافة الاستقصائية، وينتهج الكثير من الصحفيين والباحثين حول العالم نهجه في الاستقصاء وتتبع القصص المسكوت عنها وكشفها للعالم.