(1)
الرابع عشر من يوليو / تموز لعام 1099.
المشهد مخيف.
الصليبيون الرومان الكاثوليك يحاصرون القدس، المدينة التي يتعايش بها المسلمون والمسيحيون في سلام، الحصون والأبراج جاهزة لحرب ستبدأ فجرًا، غير أن الناس في ذعر، كثيرون يستعدون للهرب، وآخرون يقررون البقاء للقتال دفاعًا عن المدينة، مدركين أنهم سيموتون على الأرجح.
رجل عُرِفَ بين أهل المدينة بأنه القبطي الحكيم، يطلب من الجميع القدوم إلى الساحة العامَّة، ينوي أن يلقنهم حكمة الحياة وهم يستعدون للموت، معتقدًا أن ما في جعبته سوف يساعد أهل المدينة في تقبل حقيقة الحرب وأيامها القاسية.
يجتمع الناس، الصغار والكبار، حتى الشيوخ والقساوسة والكهان، فعند الموت يعود الإنسان إلى أصله بعيدًا عن كل اللافتات، يعظهم القبطي، ويرد على تساؤلاتهم حول الحرب، والهزيمة، والنضال، والتغيير، والولاء، والوحدة، وفي النهاية تأخذ أسئلتهم مجرى مختلفًا، فيسألون عن الجمال، والجنس، والأناقة، والحب، والحكيم يبدي رأيه في كل أمر، طالبًا منهم تدوين ما يقول.
(2)
تمر سنوات طويلة، ثم في عام 1945، وفي قرية قريبة من محافظة قنا بصعيد مصر، وبينما يبحث أخوان عن مكان يرتاحان فيه، يعثران في كهفهما على جرة بها مجموعة من البرديات العتيقة، فيقرران بيعها في سوق التحف بعيدًا عن أعين الحكومة، ويصل بعضها إلى المتحف القبطي في القاهرة، وقد سميت البرديات المكتوبة بـ(مخطوطات نجع حمادي)، نسبة لأقرب منطقة معروفة للكهف الذي وُجِدَت فيه.
في عام 1974، يكتشف عالم الآثار السير والتر ويلكنسون مخطوطة أخرى، هذه المرة مكتوبة باللغات العربية والعبرية واللاتينية.
سنوات قليلة تمر ويلتقي الروائيُّ البرازيلي الشهير باولو كويلو ابنَ السير والتر، تحديدًا في كريسماس عام 1982 بمنطقة ويلز ببريطانيا، لكن الحديث بينهما يعبر سريعًا على أمر المخطوطات التي اكتشفها والده، تلك التي يقرر الابن لاحقًا إرسالها إلى الروائي في 30 نوفمبر 2011، ليحولها الأخير إلى روايته الشهيرة “مخطوطة وجدت في عكرا”.
قيل الكثير عن صحة المخطوطات، لكن ما نسب للحكيم القبطي جدير بالتفكير والاعتبار، لذا اعتبرت نفسي محاورًا له، أسأله، وأتحصل على إجاباته من النص الذي نقله وكتبه باولو كويلو في روايته الشهيرة.
(3)
سألتُ الحكيمَ: لماذا نخاف منَ التغييرِ؟
أجاب: لاعتقادِنَا أننا نعرفُ عالمَنَا بعدَ الكثيرِ منَ الجهدِ والتضحيةِ، ومعَ أنَّ هذا العالمَ قد لا يكونُ أفضلَ العوالمِ، ومع أنَّنا قد لا نكونُ راضينَ تمامًا بهِ، فهو على الأقلِّ لنْ يُقدِّمَ لنا أيَّ مفاجآتٍ مزعِجةٍ.
قلتُ: وربَّمَا لأنَّ الناسَ تحبُ السيرَ في طريقٍ معتادٍ مستقيمٍ رتيبٍ.
قال: خطأٌ، لأنَّ الدربَ المستقيمَ هو دربُ الطبيعةِ المتغيرةِ أبدًا ككثبانِ الرملِ في الصحراءِ.
الطبيعةُ تقولُ لنا: تَغَيَّروا!
-لكنْ سيِّدي إنّها مهمةٌ شاقةٌ للراغبينَ في التغييرِ.
=نعمْ! هم يواجهونَ قِيَمَهُمْ وأحكامَهُمْ المسبقةَ، يُنصِتونَ إلى نصيحةِ محبِّيهِمْ الذين يقولون: لمَ تفعلُ هذا؟ لديكَ كلُّ ما تحتاجُ إليه: حبُّ والديْكَ وزوجتِكَ وأولادِك، والعملُ الذي استغرقْتَ دهرًا للحصولِ عليْهِ، لا تجازِفْ في أنْ تتحوَّلَ إلى غريبٍ في أرضِ الغُرَبَاء.
أتعتقد أنهم يجازفون؟
سألت فأجاب:
إنَّهُمْ يجازِفُونَ في اتخاذِ الخطوةِ الأولى، تارةً بداعي الفضولِ، وتارةً بداعي الطموحِ، ولكنَّهُمْ في العمومِ يَخْطُونَها لشعورِهِمْ بشوقٍ جامحٍ إلى المغامرةِ.
وعندَ كلِ منعَطَفٍ على الدّربِ، ينتَابُهُمْ الخوفُ أكثرَ فأكثرَ، ومعَ ذلكَ وفي الوقتِ نفسِهِ يُفاجِئونَ أنفسَهُمْ أنهم أقْوَى وأسْعَدُ.
يواصل:
الفرحُ إحدى البركاتِ الأساسيةِ التي يُنعِمُ بِها علينَا القَدِيرُ، إذا كنَّا سعداءَ فهذا يَعْني أنَّنا على الدربِ الصحيحِ.. وهَكَذَا يَذْوي الخوفُ تدريجيًّا.
ألا نخشى أن يُبْعِدَنا التغييرُ عنِ الحَقِيقَةِ؟
سألتُهُ مرة أخرى فأجابَ:
تُعَلِّمُ الأديانُ أنَّ الإيمانَ والتحوُّلَ هُمَا السبيلُ الوحيدُ للاقترابِ منَ الإِلَهِ.
وعندمَا يبدُو كلُّ شيءٍ حالِكًا، ونشعُرُ بالوحدةِ والعجْزِ، لن ننظُرَ إلى الخلفِ خَشيةَ أنْ نَرَى التغيُّراتِ التي طرأتْ علَى روحِنَا، بلْ سننظُر إلى الأمَامِ.
لنْ نَخْشَى مَا سيحدثُ في الغدِ لأنَّ عينًا ساهرةً كانتْ تحرُسُنَا أمسِ.
وسيجانِبُنَا ذاكَ الحضورُ الإلهيُّ نفسُهُ إلى الأبِدِ.
سنَمْضِي أبعدَ ممَّا نعتقدُ، سنبحثُ عنِ المكانِ الذي فيهِ تولَدُ نجمةُ الصبحِ، وسنتفَاجَأُ لدى وصولِنَا بأنَّ الأمرَ كانَ أسهلَ ممَّا تصوَّرْنَا.
(4)
في هذه الرواية أو هذا المخطوط الكثير من الحكم، ولعل أعظمها في نظري تعريفه للفرق بين الهزيمة والفشل:
“تحل بنا الهزيمة عندما نفشل في الحصول على أمر نريده بشدة، أما الفشل فيمنعنا من أن نحلم، تنتهي الهزيمة متى خضنا معركة أخرى، أما الفشل فلا منتهى له، هو خيار نتخذه مدى الحياة”.
لكن الرائع قوله:
إلى من يعتقدون أن في المغامرات مخاطرة، أقول: جربوا الرتابة فهي ستقتلكم أسرع.
(5)
أنهيت الرواية، أو قل: سلسلة الحكم التي وردت بها عن الحياة، مؤمنًا بأن التغيير نعمة يرزقها الإله من يشاء، شريطة أن نسعى إليه، شرط آخر ألا يكون التغيير هو المراد في حد ذاته، وإنما خطوة إلى حياة أفضل.