(1)
صورة اُلتقطت في تشيلي في أوائل عام 1949 تُظهر عالم طيور قوي البنية ملتح مع رجلين آخرين، يمتطي الثلاثة خيولاً تتدرج في قتامة ألوانها من اليسار إلى اليمين، وخلفهم تضاريس جبلية وعرة مبعثرة، وتحت خيولهم شظايا من الصخور تجعل الطريق صعبًا.
على حصان أسود في أقصى اليسار الشيوعي خورخي بيليه، وعلى الحصان الأبيض إلى اليمين يوجد فيكتور بيانكي مفتش الأراضي بوزارة الداخلية.
أما رجل المنتصف الملتحي، فهو يرتدي قبعة سوداء مع شريط حريري وحافة واسعة بما يكفي لتظليل عينيه، يدَّعي أنه عالم الطيور، وأن اسمه أنطونيو رويز، لكننا سنعرف لاحقًا أنه بابلو نيرودا.
(2)
يبدأ كل شيء في يناير 1949، حين يزور مبعوث هاري ترومان -الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية- رئيس تشيلي غونزاليس فيديلا، ويحاول إقناعه بخطورة الإفراط في اليسارية على مستقبل بلاده، ويبدو أن الأخير اقتنع بما يكفي لأن يباشر في حظر الشيوعية بدموية وعنف شديدين.
لا يحتمل صاحبنا -وهو واحد من أشهر شعراء العالم، وشيوعي عضو بمجلس شيوخ بلاده- ما وقع في حادثة إضراب عمال المناجم الشيوعيين من قمع دامٍ، أسفر عن اقتيادهم إلى معسكرات اعتقال سيئة السمعة.
في خطابٍ بِاسْم: “أنا أتهم” يتلو نيرودا أسماء عمال المناجم الستمائة الذين تم سجنهم في معسكر الاعتقال واحدًا واحدًا، ويندِّد بممارسات الحكومة الفاشية، فيَصدر على إثرها أمر بالقبض عليه.
(3)
تبدأ شرطة التحقيق تفتيش منازل أصدقاء الشاعر المناضل ومعارفه والمتعاطفين معه، فيختبئ عند أحد المقاتلين الشيوعيين، والذي بدوره يتواصل مع رجل إسباني يدعى فيكتور باي ويخبره بالأمر.
يتقدم الإسباني فيكتور المشهد، ويأخذهما إلى شقته، معتبرًا سلامة الشاعر وزوجته مسؤوليته الكبرى؛ ردًّا لجميل قديم صنعه معه نيرودا، حين قام قبل عدة سنوات بإدراج اسم الإسباني في قائمة ركاب باخرة وينيبيغ، تلك التي حملت ألفين من اللاجئين الإسبان إلى تشيلي، والتي خطَّط ودبَّر وسعى فيها نيرودا ضد رغبة ومقاومة المعارضة.
وضع فيكتور سلسلة من التعليمات الصارمة التي يجب التقيُّد بها مثل: العزل التام، فلا يتصل به أحد، في وقت كانت شرطة العاصمة التشيلية سانتياغو بأكملها تلاحقه، وكانت الصحف تدَّعي كل يوم أنهم قاموا بتطويقه، وعلى وشك إلقاء القبض عليه.
في مقامه عند فيكتور، يتصفح نيرودا أطلس تشيلي، يتعرف منه على أسماء الغابات والأنهار والجبال والتي -لاحقًا- سيستخدمها في أشعاره وكتابه الذي سيقوم بنشره، وبجانب هذا، فقد راح يستغل فترة عزله في كتابة أبيات صغيرة مقفاة تلمز شخصيات مرموقة في النظام التشيلي، ويقوم فيكتور بنسخها على آلته الكاتبة في اثنتي عشرة نسخة يبرقها إلى الصحفيين وأعضاء مجلس الشيوخ والنواب، لتصنع هذه الوريقات تأثيرًا عظيمًا؛ إذ كانت طريقة جسورة وغير مألوفة في ممارسة السياسة.
(4)
ومع تضييق الخناق -وبعد ثلاث محاولات فاشلة لتهريبه من البلاد- يستعين فيكتور بصديق يُدعى خورخي بيليه باستياس يتسم بالشجاعة والنبل والموهبة الفذَّة، وكان في ذلك الوقت رئيسًا ومديرًا لمنشرة خشب في جنوب تشيلي على الحدود مع الأرجنتين.
وفي زياراته إلى سانتياغو لتدبُّر بعض الشؤون الفنية حول مناشر الخشب، يخبر فيكتور أن صديقًا شيوعيًّا يقيم لديه، ويريد مساعدته على الهرب؛ ليتحرر من احتمالية تعرُّضه للاعتقال، ويتفقا على التخطيط لخروجه بالتفصيل مستعينين بتلك المنشرة.
وعندما أتى بيليه متخفيًا إلى بيت صديقه؛ ليصطحب الهارب المطارد يكتشف أنه بابلو نيرودا الشاعر المناضل المشهور.
وفي محاولة لكيلا يلفت الانتباه أثناء رحلته من تشيلي، يتم استخراج بطاقة تعريف لنيرودا في وظيفة مختلفة، ويُدرج على أنه غير متزوج، وتاريخ ميلاده عام 1901 بدلاً من 1904، وتحديد مسقط رأسه في العاصمة سانتياغو بدلاً من مدينة بارال مسقط رأسه الحقيقي.
(5)
يتحرك الجمع في إحدى الصباحات في سيارتين، في إحداهما بيليه مع نيرودا والدكتور راؤول بولنز -شرطي طبيب وصديق لنيرودا- والذي بحوزته أوراق اعتمادية استخدموها في عبور نقطة تفتيش للشرطة كانت على بُعد 80 كيلومترًا من جنوب سانتياغو، وعبروا بسلام دون مشاكل.
يوقفون السيارات على بُعد بِضع كيلومترات، ويحتفلون بهذا العبور الناجح، ويعود الدكتور بولنز وفيكتور بعدها إلى سانتياغو. بينما يصطحب بيليه الشاعر إلى منزله حيث من المفترض أن يُقيما لمدة أسبوع للراحة، ثم يمتطيا بغالًا إلى الجانب الأرجنتيني حيث قرية سان مارتن دي لوس أنديس، إلا أن زيارة مفاجئة تطرق الأبواب.
فبينما نيرودا يقيم مع بيليه في منزله، يعلن خوسيه رودريغز عن قدومه، وهو مالك الأرض والمزرعة ومنشرة الخشب، وهو كذلك تاجر ورجل أعمال مرموق، وفوق ذلك، فهو من الدائرة المقربة لغابريل غونزاليس، الرئيس التشيلي آنذاك، والذي كان يرغب بشدة في النيل من نيرودا، والذي يحاول نيرودا الفرار من بطشه.
مذعورًا، لا يجد بيليه مفرًّا إلا أن يُرسل نيرودا ليقيم في منزل أحد الفلاحين العاملين في المزرعة؛ خوفًا من أن يشي رودريغز به، أو تصله أيادي شرطة التحقيق.
ولسوء حظِّهما، وعلى عكس ما هو معتاد من زيارة رودريغز للمزرعة -والتي عادةً تستمر يومًا واحدًا فقط- فقد اعتزم هذه المرة أن يبقى لعدة أيام؛ نظرًا لسوء الأحوال الجوية والعواصف الضاربة التي سدَّت الطرق. وهكذا لا يبقى أمام بيليه سوى أن يعترف لرودريغز بأن نيرودا -العدو اللدود لصديقه رئيس البلاد، هو في حقيقة الأمر- هناك في مكان ما في مزرعته.
وبنبلٍ وجسارة شديدين، يطلب رودريغز من بيليه أن يصحبه فورًا إلى منزل المُزارع الذي ينزل نيرودا لديه. وهناك يقترب منه ويخبره أنه -ومنذ تلك اللحظة- ضيفٌ في أمانه وتحت حمايته، ويصيران بعدها صديقين حميمين.
يبقى الثلاثة معًا في المنزل حتى تهدأ العاصفة. يتحرَّك نيرودا وبيليه إلى الجانب الأرجنتيني، بينما عاد رودريغز لاحقًا لسانتياغو، ولم يُخبر بما رأى.
لكن يبدو أن الأمطار قد سدَّت عليهم الطرق، ولم يبق لهم طريق للفرار سوى عبر أخطر ممر للمهربين في ليلبيلا في جبال الأنديز.
وهناك يلتقي الشاعر بمجموعة من المهربين وقطَّاع الطرق الذين يجتمعون على حمايته ومساعدته.
لاحقًا يحكي نيرودا عن هذا النوع من التضامن والتكاتف الذي رآه في هذه العصبة المكوَّنة من رجال بائسين يحمي بعضهم الآخر. تجتمع مناجلهم ومعاولهم على شق طريقٍ واعرٍ غائر، ويتشاركون الطعام والقصص والتحمم في عين الماء الساخن.
(6)
يستقلا سيارة إلى بوينس آيريس، وهناك يتخلى نيرودا عن الاسم المستعار لعالم الطيور أنطونيو، ويستعير جواز سفر من ميجيل أنجيل أستورياس الحائز على جائزة نوبل في غواتيمالا، والذي كان نيرودا يشبهه بشكل طفيف، ويستقل أول طائرة محلِّقة إلى فرنسا.
وبينما كان يعبر المحيط في أوائل عام 1949 متجهًا إلى باريس، تكتشف الشبكة التي قامت بتهريبه من وطنه لوحات طباعة لم يتم استخدامها لمدة 15 عامًا، فقاموا بطباعة طبعة محدودة من كتابه الذي انتهى من كتابته لتوه، وكان يحمل أوراقه معه طوال هذه الرحلة الشاقة. ولم تكن مغامرة سهلة؛ فقد كان بإمكان الشرطة معرفة آخر من استخدم هذه اللوحات.
هذا الكتاب يُعتبر تحفة نيرودا الكبرى، والأشد معاداة للإمبريالية، والأكثر محاكاة للشاعر الأمريكي ويتمانسك، ويعد تأريخًا شعريًّا شاملاً لأمريكا اللاتينية يُروى بألسن المظلومين.
(7)
من فرنسا يسافر إلى إيطاليا ليجتمع بزوجته، لكن الشرطة الإيطالية تعتقله وتأمره بالمغادرة، لكنَّ حشودًا من محبيه يتظاهرون، وفي صباح اليوم التالي تنشر الصحف الإيطالية أن السلطات لم تجد مبررًا كافيًا لطرده.
في الحقيقة كان المتظاهرون يقاتلون ضد فكرة أن تقوم الحكومة بطرد كاتب لم يرتكب مخالفة في إيطاليا، ومضطهد من قِبَل الحكومة الاستبدادية في بلاده.
في الحقيقة كانت معركة ضد الظلم.
ضد الطغاة أينما كانوا.