(1)
اختاروا لي اسم: “مورفي”، لا أعلم لماذا! لكن أحدهم اقترح لي هذا الاسم، ووافقه الباقي، واشتهرت به.
في الحقيقة هؤلاء البشر غاية في الغباء، أنا وقومي نعرف عنهم ذلك، رغم أنهم يتهموننا نحن بالغباء، لقد خلقهم الله وسخر لهم كل الكون، لكنهم اختاروا أن يقضوا حياتهم في حروب لا تنقطع.
المشكلة أنهم هذه المرة ورطوني معهم في معركتهم التي أطلقوا عليها اسم: “الحرب العالمية الأولى”، والتي انطلقت قبل عام من وقوع حكايتي هذه.
(2)
في خواتيم أبريل (نيسان) من العام 1915، كنت أعيش هناك، بالقرب من مضيق الدردنيل، الواقع في الشطر الأوروبي من تركيا، حينها بدأ مَن يُطلقون على أنفسهم اسم: الحلفاء، القادمون من المملكة المتحدة والهند وفرنسا وأستراليا ونيوزيلندا، معركة كبيرة ومهمة في محاولتهم للوصول إلى إسطنبول.
رأيت العثمانيين بدورهم يدافعون بقوة، تحصد مدافعهم ورشاشاتهم أرواح عشرات الآلاف من القتلى، وزد عليهم من المصابين، لم يكن الأمر ليعنيني، قلت في نفسي: فليقتل هؤلاء الأغبياء بعضهم البعض، وانصرفت لحالي، أستمتع بأكل ما تجود به الأرض.
لكن قاتل الله الفضول، فقد كانت المعركة محتدمة حين شاهدت جنديًّا يغني ويصفر رغم هذا الموت كله، وجدتني أبادله صفيره بنهيقي، وليتني ما فعلت، فقد لفتُّ نظره إليَّ، وإذ به فجأة يترك المعركة والقتلى والمصابين، ويتوجَّه لي، أوحى لي برغبته في أن أساعده وأحمل معه بعض الجرحى.
ترددت، ولكن تذكرت أن من واجبي ألا أكون كهؤلاء البشر، وأن الرحمة يجب أن تسود.
بعد عدة مرات صعودًا وهبوطًا، وبعد أن انتهيت من تنزيل حمولتي في هذه الممرات الجبلية، قدَّموا لي بعض الطعام، وعرفت من حديثهم أن هذا الشخص اسمه: “جون سيمبسون” أو “سيمي” كما يناديه رفاقه، وأنه بريطاني هاجر إلى أستراليا، ولسوء حظه جُنِّد في جيشها مسعفًا، لكن هذا المجنون، وبعد أن أعرب عن حسن صنيعي وشكرني، أبلغني أنه قرر ضمي إلى فريقه من المسعفين، وحدَّد دوري بحمل المصابين على ظهري ونقلهم.
(3)
في الحقيقة أنا ورفاقه قابلنا الفكرة باستخفاف، لكن ما لبثنا جميعًا أن تراجعنا واعترفنا بجدواها، وهكذا أصبح عليهم أن يقتلوا بعضهم بعضًا، وعليَّ أن أحمل على ظهري ضحاياهم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما دعوا بعض أصدقائي للالتحاق بهم، وهكذا تم تجنيد عدد من أصدقائي مِن نفس فصيلتي، ووزَّعوا عليهم نفس الدور.
وفي وصف ما كنا نقوم به تسنى لي أن أقرأ لاحقًا ما كتبه العقيد بالجيش الأسترالي جون موناش في مذكراتِه:
“الجندي سيمبسون ووحشه الصغيرُ نالا إعجاب الجميع في الطرف العلوي من الوادي، لقد عملا ليلاً ونهارًا طوال فترة الإنزال، وكانت المساعدة المقدمة للجرحى لا تقدَّر بثمن”.
أعترف فعلاً أن سيمبسون لم يكن يعرف أي خوف، بل كان يتحرك بلا مبالاة وسط نيران الشظايا والبنادق.
ويبدو أن هذا السلوك البطولي أغرى زملاء له بتقليده، وهكذا كبر عدد أبناء فصيلتي الذين يساعدون هؤلاء الأغبياء، لكن للأسف قتلت الشظايا البعض منا، وجَرحت آخرين.
(4)
تمر الأيام ثم في 19 مايو/ أيار 1915 يشنون الهجوم الثالث، تشتد المعارك، يسقط العديد من القتلى والجرحى، وكالعادة أعمل أنا وصديقي “سيمي” بجد في إنقاذ الجرحى، في مسارات لا تنتهي بين القاعدة وخط إطلاق النار، إلى أن يقع حادث رهيب، صديقي يحمل أحد المصابين من خندقه لينقله على ظهري، فإذا برصاصة تصيبه مباشرة في قلبه فيسقط قتيلاً، لكم أوجعني الأمر، وكأنني أعرفه منذ سنوات.
يومها نهقت بما لم أنهق من قبل، لكن إخلاصًا لصاحبي قررت أن أستكمل مهمتنا مع مسعف آخر في جيش آخر من جيوش الحلفاء، وهو “ديك هندرسون” من الهيئة الطبية النيوزيلندية.
بصراحة لم أحبه كصاحبي، وإن كان بنفس الشجاعة التي جعلته يحصل على جائزة الميدالية العسكرية.
(5)
وإن كانت حكايتي تفتح ملف التضحيات التي قدَّمناها -نحن الحمير- للبشر في حروبهم، فلعلني أتذكر المقاومة في أنغولا التي كانت تخوض حربًا ضارية ضد الاستعمارِ البرتغالي، وكان السودان حينها يدعم حركة التحرر تلك.
حكوا لي أن الجميع كان يتصبب عرقًا من ارتفاع درجة الحرارة، حين كان الحضور يناقش قائمة طويلة من المهام في غرفة بمبنى حكومي في العاصمة السودانية الخرطوم.
تقفز ابتسامة على مُحيَّا رجلٍ صارمٍ وهو يقول: “إنهم يطلبون تزويدهم بالحمير؛ لتساعد في حمل العتاد في الأدغال”.
يقاطعه آخر: ولكن ألن يدلل نهيقها على مكان القوات؟
يبتسمُ الرجلُ الصارمُ ويجيبه: “لا تقلق.. سنمنعها من النهيق”.
وبالفعل يُرسَل عدد منَّا إلى الجبهات في أنغولا؛ لتحمِل العتاد في صمت، وبالفعل هي لا تنهق؛ فالأطباء البيطريون في السودان أجروا عمليات لها لإزالة حبالها الصوتية، لطالما قلت لنفسي في كل مرة أتذكر فيها هذه الحكاية: لا عجب؛ فالبشر يفعلون في بعضهم البعض ما هو أسوأ من ذلك!
(6)
أما في القاهرة -تحديدًا في مبنى السفارة الأمريكية- فنجد “جوكس كوفي” ممثل البيت الأبيض، والذي كانت مهمته الرئيسة تزويد الجهاد الأفغاني من القاهرة، أو عن طريقها، بصفقة غاية في الأهمية.
في اجتماع الرجل مع آخرين يعلن في امتعاض موافقته على المبلغ المطلوب، والذي يرى أنه مبالغ فيه لإتمام الصفقة، التي تتلخص في شراء ألفي حمار تُرسل إلى أفغانستان.
وعلى الرغم من أن المواصفات المطلوبة كانت بغالاً قبرصية اعتادت على وعورة التضاريس وثقل الأحمال، إلَّا إنه تم توريد حمير من ريف مصر، ولذلك حكاية أخرى لطيفة.
فقد أراد حاكم لدولة خليجية التخلص من الحمير الضالة في بلاده، فاقترح عليه أحدهم إرسالها للريف المصريِّ لمساعدة الفلاحين، لكن تلك المساعدة التقطَتها يد مورد الصفقة الجهادية، وأرسلها لتحمل العتاد في أفغانستان.
(7)
أما أطرف حكايتنا ربما فهي عن ذلك الحمار الذي كان يعيش في قاعدة أمريكية غرب مدينة الفلوجة أيام غزوِ العراق، فقد اعتاد هذا الحمار على التهام أعقاب السجائر، حتى أصبح الجنود يُطلِقون عليه اسم: “مستر سموك”.
يقع الكولونيل “جون فولسوم” قائد المعسكر في حب الحمار، ويقرر السعي لاستقدامه بعد عودة العسكر لبلادهم، ويخوض سلسلة طويلة من الإجراءات، والتحاليل، والشهادات، واستمارات صحية من الجمارك، ومسؤولين في الزراعة والخطوط الجوية.
بعد سبعة وثلاثين ساعة من الطيران يصل “مستر سموك” بعد تكلفة بلغت حواليَ ثلاثين ألف دولار، لكنه للأسف يموت في ولاية نبراسكا، حيث كان باديًا عليه بوضوح الألم الشديد، ونهيقُه بدا خَافِتًا، قيل: إنه أصيب بمغص مَعَوي، وقيل: إنها الغربة!
وإذا كانت الحكاية لا تبدو لبعضكم طريفة فهاكم أخرى، عن حمار السيدة كلثوم بائعة لبن في مدينةِ القضارف شرقي السودان، فحين كانت القوات الإيطالية تطلق قذائفها، تصيب شظية حمار السيدة الذي ربطته في شجرة وراحتْ تصب الحليب لزبائنها، نَفَق الحمار لكنه صار سببًا للتهكُّم على طيران العدو؛ فغنت المغنيَّة السودانية على أثير إذاعة أم درمان واصفة الطائرة الإيطاليَّة قائلة:
“جات تضرب الخرطوم… ضربت حمار كلتوم.. ست اللبن”.