(1)
كانت الحياة تجري بشكلها الاعتيادي إلى أن ضجت قريتنا يومًا بزيارة الأمير عبد القادر.
رأيته وأنا لا أكاد أصدق نفسي، أهذا هو المجاهد العظيم الذي يقاوم الاستعمار؟!
تنتهي الزيارة، وتمضي الأيام، وأنا أكبر، غير أن هذه الزيارة تظل حاضرة دومًا في حياتي، وأنا الأمازيغية الجزائرية، التي سطرت سطرًا في التاريخ، سيذكرني به قومي دائمًا.
أما عدوي الفرنسي فإنه قد عرفني أيضًا جيدًا.
(2)
في الشهر السابع لعام 1830، وفي آيت بو يوسف، تلك القرية الصغيرة الساكنة في شمال شرق الجزائر، ولدت لشيخ الزاوية الرحمانية، ليصبح اسمي: “فاطمة بنت سيدي أحمد محمد”، ولأكبر في بيت تحفه أصوات القرآن وذكر الله، وفيه يعلمونني القراءة والكتابة، وفي الزاوية أبدأ في حفظ آيات الله، وتعلم العلوم الشرعية.
أكبر، أتأمل حال النسوة من حولي، كثير من الجهل، ومجتمع لا يمنح المرأة كل حقوقها التي تعلمتها في الزاوية.
تنتابني حالة من التمرد، يمتد تمردي إلى رفض الزواج، رغم أني قد بلغت السادسة عشرة، وفي مثل عمري، وفي هذا الزمان كان على كل فتاة أن تتزوج، حاولوا إقناعي لكني ظللت على موقفي.
إلى أن تقع المصيبة، ويتوفى والدي الحبيب، لم أملك حينها إلا أن أحبس نفسي في غرفتي، حتى إن أهل قريتي زعموا أن الأرواح تتلبسني.
لاحقًا يتقدم أحد أقارب والدتي للزواج بي، يرغمني أخي سي الطيب على الأمر، أُزف بالقوة إلى زوجي، أدعي المرض وأتمنع عنه، فيعيدني إلى بيت أبي.
تهفو روحي إلى التنسك والتصوف، يكثر الهمس في قريتنا الصغيرة، تحمل النظرات كثيرا مما لا يقال، أضيق بذلك كله، وأقرر الالتحاق بأخي الأكبر سيدي الطاهر في قريته سومر، وهناك أحظى بعطفه، وهو شيخ الطريقة الرحمانية في قريته، وقد كثر طلابه ومريديه.
أنتهز الفرصة وأهرع إلى اكتساب المزيد من المعارف والعلوم، فتدب في روحي السكينة، يقصدني الناس، يسألونني، وأجيبهم قدر ما أعرف، يطلقون عليَّ: “لالَّة فاطمة نسومر”، فنحن الأمازيغ نقول: لالَّة للسيدة الشريفة، ثم إننا عندما ننسب شخصًا لمكان نقدم حرف النون على المكان المنسوب إليه وهو سومر، فيصبح نسومر، وهكذا عرفت بـ: اللالة فاطمة نسومر.
(3)
الفرنسيون منزعجون جدا؛ لأن منطقة القبائل التي أنتمي إليها لم يصلها احتلالهم بسبب طبيعتها الجبلية الوعرة؛ فهي جزء من سلسلة جبال جرجرة الجزائرية، ينظر أهلها إلى الفرنسيين باحتقار، ولا يسمحون بدخولهم إليها أو التجارة معها، والأنكى أن بعض المجاهدين يختبئون هناك.
هؤلاء الفرنسيون الذين وصلوا بلادي محتلين، في الخامس من نفس شهر ميلادي لنفس العام، وحينها اندلعت المقاومة هنا وهناك، يقودها في شرق البلاد الباي أحمد باي، وفي غربها الأمير عبد القادر، الذي حدثتكم عن زيارته لقريتي.
يقرر المحتل غزو منطقة القبائل مستغلاً سقوط مقاومة الأمير عبد القادر، يرسل رسالة إلى قادة القبائل يطلب إليهم الاستسلام والخضوع من دون مقاومة، وتسليم خليفة الأميرِ عبد القادر الذي يدعى “أحمد الطيب بن سالم”، يهددونهم بحرق قراهم ومحاصيلهم.
يأتي الرد من قادة القبائل: “لقد طلبتم منا أن نطرد ابن سالم، فكيف نوافق على ذلك ونحن مسلمون؟
ولتعلموا أن الخسارة والربح سيان، ومن عاداتنا أن نتحدى النفي والتشريد والموت، ولا تظنوا أن إتلاف محاصيلنا يجعلنا ننخذل أمامكم؛ لأن هذه المحاصيل كثيرًا ما يقضي عليها الجراد، أو تجرفها السيول، وتلكَ الأشجار كثيرًا ما تموت، وما الرزق إلا من عند الله”.
تبدأ المعارك، وعلى الرغم من فرق القوة، لم تمل الكفة لطرف دون الآخر.
(4)
حينها رأيت ألا أكتفي بدروس العلم، وإنما أدعو الناس إلى المقاومة، أحدثهم عن الجهاد وفضله، يقع كلامي في قلوب الناس، يلتف حولي المناصرون.
كانت المعارك شرسة، الفرنسيون المحتلون يحققون بعض التقدم، والمقاومة تبذل أقصى ما لديها، وهناك على جبال جرجرة كان أحد المجاهدين يوجعهم ويؤلمهم بعملياته، إنه محمد الأمجد بن عبد المالك، أتواصل معه، نتفق على أشياء كثيرة، يخوض معركة حامية الوطيس للدفاع عن القرى، وأحشد أنا عددًا كبيرًا من النساء.
لقد بت في قلب المعركة، مرتدية زيي الأمازيغي، الجبة والخمار بلونهما الأحمر الذي أحبه، حتى قال الناس عني: العالمة المتصوفة، تحولت إلى مجاهدة.
تستمر المعارك بضراوة، يلتقي الطرفان في وادي سيباو، حيث يُظهر المجاهدون شجاعة نادرة، وفجأة يسقط الشريف محمد الأمجد بن عبد المالك أرضًا بطلق ناري، يقترب جندي فرنسي لأسره، لكني -بفضل الله- أنهي حياته، وأنجح في منع أسر القائد، ويكر المجاهدون عليهم.
لم يستطع قائدهم الجنرال الفرنسي رندون تجرع الهزيمة، يقود قواته إلى منطقة “واضية”، لكنَّ جزائريًّا ممن باع نفسه يُدعى: باش آغا الجودي، يساعد الفرنسيين ويقاتل معهم، أنجح في قتله، يخسر الفرنسيون مخلفين وراءهم ثمانمائة قتيل منهم خمسة وعشرون ضابطًا.
(5)
أواصل مع قواتي الإغارة على معسكرات الجيش الفرنسي بهجمات مباغتة، نفاجئه، نوقع به الخسائر ثم ننسحب.
تصل قوات احتلال إضافية لدعم المحتل، ليصل عددهم إلى خمسة وأربعين ألف مقاتل، وتصبح قوات الاحتلال أكثر عنفًا، تستهدف المدنيين، تحرق قراهم وتقتل عائلات بكافة أفرادها.
يتحركون ناحية قرية “آيت تسوراغ”، أنجح في صدِّهم وأوقع بهم خسائر كبيرة.
ولأني أدرك أن المعركة غير متكافئة بالمرة، وأن قواتي أقرب للخسارة أَطرح الهدنة والتفاوض، ويوافق الفرنسيون على ذلك، ليقود المفاوضات من جانبنا أخي سي الطاهر، ومن جانبهم الجنرال رندون.
لكنها الخيانة، يتظاهر رندون بالموافقة على طلبات أخي، ثم يلقي القبض عليهم جميعًا، ويأمر قواته بمحاصرة ملجئي، ويأسرونني مع عدد من النساء، وأُقاد معتقلة إلى منطقة بني سليمان، وأقضي سنوات اعتقالي الطويلة في القراءة والتعبد، بينما روحي كما هي طليقة متمردة على الباطل، محبة للخير والجمال.
أُصاب بمرض عضال، يشل حركة نصفي، ليتوفاني الله في الشهر التاسع من عام 1863 مريضة وأسيرة، وأنا ابنة ثلاثة وثلاثين عامًا لتنتهي رحلتي مع العلم والتعبد والجهاد.
تحصل بلادي على استقلالها بعد زهاء قرن من وفاتي، وأنال التكريم من شعبي.