حكايتي (7)
معركة الألم
(1)
المصارع شخص شرس، لا يعرف الرحمة، يوقع بالآخر الألم، أما الطبيب فهو من يداوي الناس وينقذهم من الألم، أما أنا فقد كنت الاثنين، نعم الاثنان معًا، لذلك تبدو قصتي مثيرة جدًّا.
(2)
اسمي “جون جوزيف بونيكا”، إيطالي الأصل، في جزيرة فيليكودي بالقرب من سواحل صقلية، ولدت في 16 من الشهر الثاني لعام 1917، لكن ما إن بلغت عشر سنوات من عمري، حتى اختارت عائلتي الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن والدي توفي بعد وصولنا بخمس سنوات لأجد نفسي مسؤولاً عن نفسي، وقد بلغت الخامسة عشر من العمر.
عملت في كل الوظائف الممكنة؛ تلميع الأحذية، وبيع الجرائد، وبيع السلع الخفيفة، ثم اكتشفت إني أحتاج إلى كثير من المال، حتى أحقق حلمي بالالتحاق بالجامعة، فماذا فعلت؟
احترفت المصارعة، نعم فعلتها وعمري 19 عامًا، وخضت ناجحًا منافسات في الكرنفالات وعروض السيرك المختلفة داخل المدن الأمريكية، وساعدني ذلك في تحقيق حلمي بالالتحاق بكلية الطب بجامعة ماركيت في ولاية ويسكنسون الأمريكية.
ولأن الجمع بين طالب الطب والمصارع صعبٌ، فقد اخترعت هوية جديدة أختفي وراءها، فادعيت أني المصارع المحترف “جوني بول والكر”؛ لأخوض بهذا الاسم منافسات ضد مشاهير المصارعة وأتغلب عليهم، وأفوز ببطولة العالم عام 1941، وأنا أرتدي قناع وجه ليطلق الناس عليَّ لقب: “الأعجوبة المقنعة”.
(3)
في صيف 1941 وفي سيرك مدينة بروكفيلد بنيويورك، وفي خيمة الحيوانات، كان مروض الأسود في مأزق خطير؛ إذ حشرت رأسه داخل فم الأسد، وبالرغم أن الأسد لم يغرس أنيابه في لحمه فإن الهواء داخل فم ملك الغابة لم يكن كافيًا للتنفس، أسرعت بتقديم المساعدة الطبية للرجل الذي أفلته الأسد أخيرًا فاقدًا للوعي على مشارف الموت.
لم يكن أمامي سوى أن أخلع قناعي، وأعلن عن هويتي، لكني لاحقًا -ومع دهشة زملائي- حافظت على روتين عملي بالسيرك خلال الصيف؛ حتى أستطيع تأمين تكاليف دراسة الطب، وعلى مر السنوات، عشت هذين العالمين المتوازيين؛ في السيرك مصارع، وفي الكلية طبيب.
حتى بعد تخرجي اضطررت للبقاء في السيرك طيلة فترة تدريبي في المستشفى، خاصة مع ذيوع صيتي وتقديمي العروض ذات التذاكر الباهظة في حديقة سكوير ماديسون، وضد منافسين كبار، ويتكلل ذلك بزواجي من حبيبتي (إيما) التي تعرفت عليها في إحدى عروضي.
سببت المباريات لي أزمات صحية واضحة؛ فقد تمزق مفصل الورك لديَّ قبل أن تنكسر لي مجموعة من الضلوع، فضلًا عن خضوعي لجراحتين بعيني المكدومتين، وتشوهات بأذني، وهكذا تراكم الألم في حياتي، لكني كنت أتحمله بقوة وصلابة.
لكني في الحقيقة لم أتحمل ألم زوجتي عند ولادتها، فطرت بها إلى المستشفى، وهناك حاول الطبيب تخفيف آلامها بحقنة الكحول التي كانت تستخدم حينها لتسكين الآلام، ولكنه عهد بالحقنة لطبيب متدرب، فأخطأ في طريقة الحقن ما سبب تهيجًا كبيرًا في حنجرتها، فتقيأت واختنقت وشحب لونها وكادت أن تموت قبل أن أتدخل وأدفع بالطبيب وأنقي مسار الهواء لزوجتي فأنقذها وابنتي، لأقرر أن أهب حياتي لعلم التخدير؛ حتى أجد وسيلة لتسكين آلام المرضى بعيدًا عن الطرق البدائية التي كادت أن تقتل زوجتي.
(4)
انضممت إلى قسم التخدير بمركز سانت فنسنت الطبي الكاثوليكي في مانهاتن كطبيب مقيم، قبل أن أنخرط في جيشنا الأمريكي في عام 1944، حيث تم تعييني رئيسًا لقسم التخدير في مركز ماديجان الطبي العسكري في قاعدة (فورت لويس) العسكرية، وأحوز على رتبة نقيب، وأنا في السابعة والعشرين من عمري.
في هذا المركز الطبي، الزاخر بما يقرب من ثمانية آلاف سرير، التقيت بالكثير من المحاربين القدامى ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية، حدثتهم كثيرًا عن الألم، وكان أكثر ما أثار دهشتي أن الألم الذي هو جرس إنذار للمريض كان مستمرًا لدى البعض حتى بعد معالجتهم؛ فوجدت أشخاصًا ذوي أقدامٍ مبتورة، ولكنهم ما يزالون يشعرون بالألم في القدم غير الموجودة!
كنت أسأل نفسي: إذا كان الألم قد عولج، لماذا يظل جرس الإنذار يدق؟ ولماذا يتألم أشخاص آخرون دون أن يكون هناك دليل على أية إصابة؟
قررت أن أهب وقتي لهذا الأمر، خاصة بعدما تركت الجيش وأصبحت رئيس قسم التخدير في مستشفى تاكوما العام، بل قررت أن أحاصر الألم من كل جهة؛ فتعقبت كل المختصين في المشفى؛ الجراحين، أطباء الأعصاب، الأطباء النفسيين، وآخرين في اجتماعات طويلة ومتصلة.
بعد ذلك عكفت على الكتب، فقرأت كل كتاب طبي وقعت عليه يدي، كل كتاب ذُكرت فيه كلمة “الألم”، فوجدت عجبًا؛ ففي أكثر من 14000 صفحة، لم أجد الألم مذكورًا إلا في سبع عشرة صفحة ونصف فقط.
ولثماني سنوات أخذت أقرأ وأكتب حتى أصدرت كتابي: “إدارة الألم” في عام 1953 الذي سمي لاحقًا: “الكتاب المقدس للألم”، والذي اقترحت فيه خططًا جديدة لتسكين الألم، وعلاجات مستحدثة قائمة على حقن تخدير الأعصاب.
أنشأت مؤسسة طبية اعتبارية أطلقت عليها: “عيادة الألم”، وفكرتها أن يلتقي كلٌّ من: الجراحين، وأطباء الأعصاب، والأطباء النفسيين، وكل من له اهتمام بالألم، يلتقون جميعًا على طاولة الغداء، ويتحاورون ويتباحثون حول ما يمكنهم تقديمه لتسكين الآلام ومعالجتها.
انتشرت فكرتي انتشار النار في الهشيم، حتى أتى عام 1977 وقد باتت في الولايات المتحدة وحدها 175 عيادة للألم.
لقد دفعني الشغف بأمر الألم لأن أعيش رحلة عامرة بالعديد والعديد من الإنجازات، فترأست أقسامًا، وكتبت نصوصًا مميزة في هذا المجال، ونُشرت أعمالي بالعديد من اللغات، وتوليت في عام 1966 منصب رئيس الجمعية الأمريكية للتخدير، بعد أن أسست في عام 1960 قسم التخدير في كلية الطب بجامعة واشنطن في سياتل.
(5)
أدعي أنني خضت مسيرة حافلة ساهمت بشكل كبير في تطوير طب التخدير وآليات تسكين الألم، لكن للأسف بدأت آثار الماضي تعود لي في أقسى صورة ممكنة؛ إذ أخذ جسدي يتداعى بعد عشرين عامًا من توقفه عن المصارعه؛ لأجد أن الألف وخمسمائة مباراة التي خضتها قد تركت أبلغ الأثر على جسدي الذي بات عجوزًا.
لقد قضيت نحوًا من عشرين عامًا في محاربة الألم، ومحاولة تخفيفه عن الناس وعلاجه، ثم قضيت عشرين أخرى أعاني منه بعدما خضعت لاثنين وعشرين عملية جراحية، منها 4 جراحات في العمود الفقري، فضلًا عن استبدالي لعظام الحوض مرة تلو الأخرى حتى بت أرفع ذراعي بأعجوبة، ولا أدير رقبتي إلا بمشقة، بخلاف احتياجي لركائز من الألومنيوم لأتمكن من المشي، حتى أصبح زملائي بل وتلاميذي هم أطبائي، خصوصًا مع ظروف عملي القاسية التي كانت تصل لثماني عشرة ساعة يوميًّا، لكني كنت أردد دائمًا: لولا عملي الشاق هذا لربما أصبحت مشلولًا بالكامل.
في إحدى رحلات عملي إلى فلوريدا، هاجت بي الذكريات، فطلبت من أحد تلاميذي إيصالي لأحد المنازل القديمة بالهايد بارك في تامبا؛ لألتقي هناك بزملاء السيرك المتقاعدين، وأستذكر معهم ذكريات هذا الماضي البعيد.
تمر الأعوام، وأرحل عن عالمكم في الخامس عشر من أغسطس عام 1994 بعدما تركت ورائي إرثًا علميًّا بتأليف وتحرير 41 كتابًا، بينما ساهمت في 60 آخرين، فضلًا عن 241 مقالة طبية، حتى باتت كتاباتي مرجعًا تأسيسيًّا في طب التخدير، وكتبت عني التايمز -بعد وفاتي- تصفني بأني كنت: “الأب الروحي لتأسيس مسكنات الألم”.