(1)
يسألني الشباب عن أمرٍ ما؛ يعتقدون أن في جعبتي إجابة جاهزة، علَّمتني إياها سنون العمر الطويلة.
في حين أن الدرس الذي تعلَّمته -فعلاً- هو أن لا حلول جاهزة، وأنك حتى تعرف الإجابة يجب أن تخوض في الأمر، يجب أن تختبره، وبحسب النتيجة يمكنك اتخاذ القرار، إما أن تمضي في طريقك، أو تتوقَّف عنه وتعود إلى نقطة الصفر؛ لتبدأ من جديد في اتجاه آخر، وهو ما يسمى بـ: (التجربة).
بالتأكيد تكلِّفك التجربة وقتًا، ومالاً، وأمورًا معنوية أخرى؛ خصوصا إذا باءت التجربة بنتائج سلبية، مما يصيبك بالإحباط، لاستنزاف التجربة منك جهدًا كبيرًا، لكن للأسف ما من حلٍّ آخر.
(2)
كنتُ أعتقد أن بصمات اليد هي التي تختلف من شخص لآخر، لذلك اُعتمدت في الأبحاث الجنائية طريقة يمكن التعرف بها على صاحبها، لكن ما تعلَّمته هو أن بصمات اليد ليست وحدها التي تختلف، وإنما كل إنسان منَّا له هويته الخاصة، وحالته المميزة، وكينونته التي لا تتشابه مع الآخرين.
أنت في حد ذاتك حالة مختلفة مهما بدا أنها تُشبه حالة أخرى، وما يصلح معك قد لا يصلح معي، والعكس صحيح، رغم أننا متشابهان في واقعنا، وفي عمرنا، وفي بلدينا، بل وربما متشابهان في نوع التجربة التي نخوضها، وفي النقطة التي سننطلق منها، والنقطة التي نريد الوصول إليها.
لذلك لا إجابات جاهزة في الحياة، وإنما عليك خوض التجربة بنفسك.
تعلَّمتُ هذا الدرس في عمر متأخر، عندما كنت -ذات مرة- في زيارة مريض عزيز، وفُتح نقاش طويل، أخبرنا الطبيب يومها أن المرضى بهذا النوع من المرض يتناولون دواءً ما، لكن نتائجه تختلف من شخص لآخر، هذا يتأثَّر به ويُشفى، وهذا لا يفعل فعله معه، نفس المرض، نفس العلاج، نفس العمر، لكن النتائج مختلفة.
تقضي عدة أيام تدرس موادَّ بعينها، وتخلص إلى أنك أحببتها، وتريد أن تلتحق بالكلية التي تدرِّسها، لكن بعد الخوض فيها قد تغيِّر رأيك!
بل قد تحسم أمورك في اختيار الإعلام -مثلاً- تخصصًا دراسيًّا، لكن من الصعب أن تحدِّد -من البداية- أي فرع منه ستدرس، وسيكون عليك أن تقرأ كثيرًا، وتفكِّر كثيرًا، ثم تختار، ثم تخوض التجربة، فإما أن تستمر في تخصصك، وإما أن تهرع إلى تخصص آخر.
(3)
نعم يبدو الأمر مكلِّفًا، لكن لا يجب أن تحسب خسائره فقط، وإنما احسب أيضًا فوائده؛ فأنت بعد التجربة شخص مختلف، وعندما تعود إلى نقطة الصفر لتبدأ من جديد لن تكون نفس الشخص الذي بدأ من الصفر مِن قبل.
لا تعود أبدا من أي تجربة وأنت خالي الوفاض؛ فكل خطوة تخطوها في حياتك سوف تستفيد منها بصورةٍ ما، التجربة هي المعلِّم، وأنت التلميذ، لذلك يجب عليك أن تصغي جيدًا إلى تجربتك.
وهذا هو الذي يختلف فيه الناس، بين تلميذ مُجدٍّ استفاد من دروسه، وبين تلميذ غير ذلك، خرج من التجربة كما دخل فيها، ثم هو يلعن الحظ والنصيب والدنيا والظروف، ولا يلوم نفسه أبدًا.
المهم في التجربة إدارتها، واستيعاب الرسائل التي تصلك وأنت تخوض فيها، وتحليلها، والاستفادة منها، بغض النظر أن تمضي في الأمر لاحقًا، أو أن تُنهي التجربة، وتعود من جديد.
(4)
لا تقارن نفسك بآخر أبدًا مهما تشابهت الظروف، أنت تُدرك التشابه الظاهري، لكنك لا تعلم الاختلافات الداخلية بينكما، وبالتالي من الغباء أن تتوقع نفس النتائج التي حصل عليها آخرون.
أسأل أحدًا مرَّ بالتجربة التي تنوي الخوض فيها، قد يمنحك عصارة تجربته، لكن لا تتوقع أبدًا أن تحصل على ذات النتائج أنت كذلك؛ هناك خصوصية في حالتك تختلف عن خصوصيته، ما يُخبرك به هو أشبه بعلامات على الطريق، قد تساعدك، وقد لا تجدها عندما تخوض بنفسك في الطريق، فثمة عواصف تطيح بالعلامات.
(5)
اقرأ ألف كتاب، وتعلَّم ألف حكمة، لكن عندما تدس قدميك في التراب، وتخوض في الوحل، وتشق طريقك، فإنك ستجد الأمر مختلفًا، تجربتك لها المذاق الخاص بها.
نحن نكبر وننضج بالتجربة، عمرك الحقيقي ليس مقترنًا بسنوات عمرك، وإنما بعدد تجاربك، بل الأحرى أن نقول: بنوعية تجاربك واختلافها، لذلك لا تبخل على نفسك بخوض تجربة تلو تجربة في حياتك.
ستلحظ ذلك بوضوح عندما تعود إلى دارك بعد تجربةٍ ما، فتجد أن رفيقك الذي لم يبارح داره لم يتغير قيد أنملة، ستراه وكأن الغبار يعلوه، فقد لزم السكون، وأنت تحركت، وتحمَّلت عناء الطريق، وتعلَّمت الكثير، ونضجت حتى بتَّ بتجاربك أكبر من سنوات عمرك الحقيقية.
في الحقيقة عندما تهرم ستنظر إلى الوراء وتدرك أن الحياة نفسها بكل ما مرَّ بك من قسوة إنما هي تجربة لن تتكرر أبدًا، ستنظر إليها من عل، وتضحك كثيرًا على أوقات ضعفت فيها، وأصابك اليأس، وتمنيت الراحة، ولم تكن تدرك أن الراحة ليست في الدنيا أبدًا.