(1)
هل تعلم أنك اثنان ولست واحدا!
تلمع في رأسك فكرة، تتحمس لها، تعزم على أن تقوم بها، ثم تهم فعلا بتنفيذها، فإذا بحماسك فجأة يخبو، وإذا بنفسك تتكاسل، وإذا بعقلك ينجدك بسيل من الأعذار، حتى لا تجد حرجا مع ضميرك.
لا يمكن أن تتحجج بعوامل خارجية، كأن هناك من أحبط همَّتك، أو عمل على إجهاضها، لكنك أنت، أنت مِن داخلك من حارب فكرتك، وحال دون تنفيذها، وكأنَّك اثنان؛ واحد لديه الفكرة، وآخر يحاربها.
(2)
“ثمة سر يعرفه الكتاب الحقيقيون ويجهله أنصاف الكتاب، وهو كما يلي باختصار: الصعوبة لا تكمن في الجزء الخاص بالكتابة ذاتها، بل في الجلوس إلى الكتابة. ما يمنعنا عن الجلوس في المقام الأول هو المقاومة”
“أكثرنا له حياتان لا حياة واحدة: الحياة التي نعيشها، والحياة الأخرى في داخلنا التي لا نعيشها، وبين الحياتين تقف المقاومة”
“المقاومة أكثر طاقة سامة على وجه هذا الكوكب، ومصدر بؤس وتعاسة أشد من الفقر والمرض، والاستسلام للمقاومة يشوه الروح”
(3)
وقع في يدي كتاب مترجم عنوانه “حرب الفن”، لم أكن أعرف مؤلفه “ستيفن بريسفيلد”، حتى قرأت أنه كاتب أمريكي شهير، من مواليد عام 1943، وأن الكتاب هو أكثر انتاجاته شهرة، ومنه اقتبست العبارات السابقة.
ورغم أن الكتاب يخصُّ بالدرجة الأولى العاملين في مجال الفن والأدب؛ فيتناول العقبات التي تواجههم، وكيف بوسعهم التغلب عليها، إلا أن الأمر يخصُّ كلَّ إنسان -برأيي- بغضِّ النظر عن طبيعة عمله.
في الكتاب يشرح الكاتب وجهة بخصوص ما أطلق عليها “المقاومة الداخلية” التي تعيق مسارك، وتعرقله، وتثبِّط همَّتك، والتي يعرفها بأنها جملة من القُوى والعوائق التي تعترض تقدُّمك نحو أهدافك، قوى من داخل نفسك وليست من خارجها، ويضرب أمثلة على ذلك كالخوف، والشكِّ، وعدم الثقة بالنفس.
ويرى أن أول أعراض تلك “المقاومة الداخلية” التي تحيل دون انطلاقك هو التسويف، فتلجأ إلى تأجيل كلِّ مشروع أو فكرة تسعى إلى تنفيذها، أو تغرق في التعاسة وتستغرق فيها، وتمضي إلى جلْد ذاتك.
(4)
يَحمل الكتاب رسائل مُلهمة وقوية، خصوصًا وأن الكاتب يمزج بين تجربته الشخصية وأفكاره الفلسفية والنفسية بشكل رائع، وهو يرى أن الخطوة الأولى التي عليك أن تخطوها لتهزم مقاومتك الداخلية هي أن تنخرط في العمل بصورة احترافية.
وأول سمة من سمات المحترف هو أنه يستمرُّ في المُضي قُدمًا نحو هدفه لا يبالي إن كان في هذا اليوم يمرُّ بلحظة سيئة أو ينتابه بعض الملل، هو يجتهد ويكدُّ في عمله مهما كانت ظروفه، ومهما كانت وساوسه.
وفي اللحظة التي يتحوَّل فيها الإنسان مِن شخص هاوٍ وحالم إلى محترف هي اللحظة التي يستطيع فيها التغلب على كل ما يعيقه، وفي ذات الوقت هو يدرك حدود إمكاناته،
ويشير الكاتب إلى أمر هام، فقد تصادفنا أوقات نعاني فيها من التشتُّت بين كثرة المهام وضِيق الوقت فننشغل بالتفكير في كلِّ تلك المهام، ويضعف تركيزنا، ومن ثم نتعثر، فنصل إلى مرحلة الكآبة وانعدام الثقة، إنها دائرة مغلقة، وهو يرى الحل في التدرب على مهارة تحديد الأولويات.
يستمر الكاتب في وصف الإنسان القادر على هزيمة مقاومته الداخلية، فهو لا يتوقَّف عن التعلُّم، يتقبَّل المديح مثلما يتقبَّل اللوم، ويمتلك كذلك مهارة الصبر؛ إذ يستطيع التعامل مع الضغط الناتج عن تعدُّد المهام، ويدرك أن الخوف أمر ضروري، لذا فهو لا يهرب من الخوف، بل يتعامل معه ويعرف كيف يروضه.
يعتقد الكاتب أن مهمة الإنسان في الحياة لا تكمن في تشكيل نفسه ليصبح الإنسان المثالي، ولكنها تكمن في أن يكتشف المرء قدرات نفسه، فإذا وُلد ليكون كاتبًا فعليه أن يكون ذلك الكاتب الذي ينتفع الناس بفكره.
(5)
تردَّدت في البداية في أن أقضي وقتًا في قراءة هذا الكتاب مع أجواء حرب غزة، لكن شدتني فكرة “المقاومة الداخلية”؛ فقد اندهشنا جميعًا من وجود أناس بين صفوفنا، يعمل على التشكيك والإحباط، يحملون أسماءنا وهويتنا وديننا وجنسيتنا، لكن قلوبهم وعقولهم وقوَّتهم مع العدوِّ، يعرقلون المسير والتضامن، يبذلون كل ما في وسعهم لإجهاض أي محاولة منا لنصرة غزة.
عدوُّك تعرفه تمامًا، وهو بعيد عنك، وإن طالك أذاه، لكن الأخطر هو العدوُّ الداخلي، الذي يعيش جارًا أو زميلاً لك، يعرف نقاط ضعفك، ومكامن قوتك، يعرف الكلمة التي تضعفك، لذلك فإنه يُطلق رصاصته ويعرف أنها ستصيبك.