(1)
سؤال: ما هي الكتب التي ساهمت في تكوينك الفكري؟
جواب: لا أعتقد أن هناك كتبًا بعينها تفعل ذلك.
دعني أسألك أنا: هل يمكن أن تذكر لي أسماء الأطعمة التي ساهمت في تكوينك الجسماني؟
لا أظن أن بوسعك الإجابة؛ تكوينك الجسماني هو خلاصة أغذية مختلفة ومنوَّعة.
تسري القاعدة -أيضًا- على تكوينك الفكري.
بالتأكيد إنَّ من اعتنى بما يأكل وأحْسنَ اختيار أطعمته، سينال تكوينًا جسمانيًّا أفضل.
نفس القاعدة تنطبق على التكوين الفكري؛ مَن أحسنَ اختيار ما يقرأ ويدخل إلى عقله، سينال تكوينًا فكريًّا مختلفًا، وأفضل ممن لم يفعل.
(2)
تقرأ مائة كتاب، ألف كتاب، لا تتذكَّر أسماءها، ولا ما ورد فيها، تعتقد أنَّ كل شيء قد تبخَّر، وأنك أضعت الوقت والمال.
لكن، في الحقيقة لم يحدث؛ إنَّ آثارها كامنة بداخلك، تؤثِّر على نظرتك للحياة، وعلى أفكارك، بشكل أو بآخر، حتى لو لم تُدرك ذلك بشكل صريح ومباشر.
التراكم هو الذي يُحدث الفرق، غير أننا نميل إلى الفوز بالضربة القاضية، لم يعد لدينا الصبر لإحداث هذا التراكم، نريد كتابًا أو أكثر نقرؤها فتُحدِث التغيير المطلوب، هكذا بضربة حظ، كتاب واحد يُحدث كل التغيير، إنه لأمر مستحيل!
نعم، قد يؤثِّر فيك كتاب بعينه؛ تتفاعل معه؛ يغيِّر قليلاً أو كثيرًا من وجهة نظرك؛ يدفعك إلى فعلٍ ما، لكن في النهاية فإنَّ أثره محدود، ويظل التراكم هو العامل الأساسي والفعَّال.
(3)
لقد اندفع الإنسان إلى فكرة الوجبات السريعة للأطعمة، ثم لاحقًا اكتشف أضرارها وراح يحذِّر منها، وأظن كذلك أنه يجب علينا أن نحترس كثيرًا من فكرة الوجبات السريعة للقراءة.
نحن نخدع أنفسنا عندما نقضي ساعات في متابعة المنصات، بين ما يُقرأ سريعًا، أو يُشاهد، إلى أن نشعر بالتخمة، ونظن أننا قد تناولنا بما فيه الكفاية.
والحقيقة إنَّ ما التهمناه إنما هو غثاء، يجعل عقولنا تنتفخ، دون فائدة تُذكر، بل ربما بأضرار عديدة.
نحن بحاجة لأن نختار ما نقرأ بعناية، ثم نقرأ ببطء، ثم ندع عقولنا تفكِّر على مهل فيما قرأته.
العبرة ليست بعدد الكتب التي نقرؤها، ولا بالسرعة التي حدثت فيها ذلك، لكن العبرة بما استقرَّ في وجداننا من أفكار، وأحدثته من تغيير، وفتح منابع الحكمة.
نحتاج إلى أن نقرأ كتبًا متنوعة، تمنحنا أفكارًا متعددة، الجسد يؤذَى لو تناول أطعمة من نوع واحد على الدوام، وهكذا أفكارنا.
الكتب غير الملابس، فلا تلجأ إلى الأسماء المشهورة، فربما كاتب مغمور يحمل كتابه فكرة رائعة، لذا سيكون من الضروري أن تستعلم عن الكتاب قبل أن تبدأ في قراءته.
ولا تنزعج إذا بدأت القراءة ولم تقوَ على أن تُكمل الكتاب الذي اخترته.
كن مرنًا؛ ففي كل مرحلة من حياتك سوف تحتاج نوعًا ما من الكتب مختلفًا عن الكتب التي اعتدت قراءتها.
لاحظتُ ذلك على نفسي، كنت أنزعج -أحيانًا- من أنه لا طاقة لي وصبر لقراءة هذا الكتاب أو ذاك، لكن وجدت أن ذلك طبيعي؛ فكما أن احتياجاتك الجسدية من الفيتامينات تختلف من مرحلة عمرية لأخرى، فاحتياجاتك الفكرية من الكتب كذلك، لتجد أن ما كنت تحبه بالأمس ما عدت تحبه اليوم، والعكس صحيح.
(4)
يصاب القارئ بما يصاب به الكاتب أحيانًا ويسمى بـ: (القفلة)، فلا يستطيع أن يكتب سطرًا وهو صاحب المؤلفات العديدة، يصيب المرض ذاته القارئ -أيضًا- فلا يستطيع قراءة صفحة واحدة من كتاب جديد.
ربما عليه في هذه الحالة أن يبتعد قليلاً عن القراءة، أن يمارس شيئًا مختلفًا، أن يدع نفسه لأن تعيش هذه الحالة لفترة مؤقتة، ثم يسحبها لاحقًا وبهدوء وذكاء لتعود إلى حالة ذهنها المتقد.
تسألني: ما الكتب التي أخرجتك يومًا من قفلتك؟
أجيبك: موت صغير، خسوف بدر الدين، بلدي، اسمي زيزفون، دلشاد، الرجل الذي يحب الكلاب، فتيان الزنك، مَرسى فاطمة.
لكن لو سألتني: لماذا هذه الكتب بالذات؟
فلن أعرف الإجابة.
ثمة كتب تتسلل إلى عقلك من حيث لم تحتسب، أو تطرقه طرقًا وأنت لا تعرف لماذا، لكنها تفعل!
ربما يكون الأمر مرتبطًا بالمزاج، بالحالة النفسية التي عليها القارئ، لذلك قد يؤثِّر به هذا الكتاب الآن، أما قبل شهور أو بعد شهور فلا يفعل.
ولا ترتبط المسألة بجودة الكتاب، أقرأ ما يكتبه البعض عن كتابٍ أبهره، يمتدحه مدحًا، أقتنيه سريعًا، لكن لا أستطيع أن أكمل بضع صفحات منه، أتهم نفسي وأدعه.
(5)
ذات مرَّة أخذني والدي -يرحمه الله- إلى مكتبة صغيرة وأنا لست في سن القراءة، استمتعت بالرسومات التي شاهدتها في الكتاب الذي اختاره لي، ومن حينها -وحتى الآن- لم أغادر المكتبة، ولم تغادرني رائحة الكتب، وملمس الصفحات، وشكل الرفوف وهي تحمل كنوزها، المكتبة أعظم قصر لنا في هذه الدنيا، وربما أعظم مخبأ.