(1)
مقالات حول الكاتب العظيم، ولقاءات تلفزيونية معه، وحفلات توقيع لكتبه، وجوائز وأوسمة يتقلَّدها، واحتفاء ما بعده احتفاء.
هذا ما يناله المسكين الذي يقضي أيامه بين القراءة والكتابة ليكتب لنا ما يكتب.
غير أنه -لسوء حظه- قد حلَّ بالبلاد ديكتاتور، وقراؤه الآن في فوضى فكرية، ينتظرون أن يخرج عليهم؛ ليجلي الحقيقة، ويزيل الغبار عن المشهد، ويسمي الأشياء بأسمائها، ويصف الواقع على حقيقته، فهل يفعل؟
(2)
قد يحقُّ للبعض -إذا ما حلَّت الديكتاتورية في بلده- أن يصمت؛ قد لا يقوى على دفع الثمن، فيلجأ إلى الصمت، واعيًا أو غير واع بأنه سيدفع ثمن صمته يومًا ما، وسنجد له عذرًا، إلا ذلك الكاتب المسكين، فلا عذر له أبدًا.
لقد أفسحنا لكلماته -في وقت الرخاء- عقولنا، أمضينا ساعات نقرأ ما كتب، نتأثَّر به سلبًا أو إيجابًا، نغيِّر من أفكارنا، ننمِّيها، نكبِّرها، في ظل عشرات الصفحات مما كتب، لذا فلا يجب عليه -أبدًا الآن- أن يهرب، لا يجب أن يفرَّ أبدًا من دوره، ومن مهمته التي ننتظر أن يؤديها خير أداء، فعليه أن يشرح لنا، ويفسِّر، ويقول، ويصرخ.
نحتاج جرأته التي أبداها وهو ينتقد مجتمعنا وأمراضه ومعه -في كثير من الأحيان- الحقُّ، نحتاج جرأته التي أبداها وهو يصف اللحظات الحميمية بين عاشقين، نحتاج جرأته التي أبداها وهو ينتقد ما نؤمن به، ويعلن تمردَّه على معتقدنا ويقول: إنه خرافات الأجداد.
نحن في حاجة إلى جرأة الكاتب الذي ادَّعى أنه يحمل شمعة بيديه، ويطالبنا بأن نسير وراءه.
قُدنا -إذن- أيها الكاتب العظيم إلى برِّ النجاة، أنقِذ عقولنا مما يجري، اشرح لنا الأمر، أعطنا مثالاً عمليًّا على “التنوير”.
(3)
لكن الكاتب -كإنسان طبيعي- قد يضعف، فيصمت خوفًا من عقاب الحاكم، وقد يبالغ في محاولة طمأنة الحاكم فيمنح الحاكم دعمه، ويبالغ فتخرج الكتب والروايات التي تمجِّد الحاكم.
ولأن فترة الديكتاتور تطول حتى يسقط، فإن أجيالاً تولد وتكبر وتتأثَّر بهذا الكذب الذي اُضطر إليه الكاتب أو ادَّعى ذلك.
ولك أن تتخيَّل عذابات جيل كامل خُدع بشعارات برَّاقة وحروب وهمية رفعها وقادها الديكتاتور، وزكَّاها الكاتب، وامتدحها.
لذلك فإن هناك في المقابل الكاتب الذي يؤمن بشرف دوره في المجتمع، وبقدسية الكلمة وأثرها البالغ في العقول والنفوس، فقرَّر المقاومة بعد أن أدرك أنه لا طريق أمامه إلا المساهمة في إنارة العقول وسط الظلام الحالك الذي فرضه الحاكم الديكتاتور.
(4)
فقرأنا (السيد الرئيس) للروائي ميجيل أنخل أوسترياس من جواتيمالا الحاصل على نوبل عام 1967م، وبسببها واجه متاعب جمة.
وقد استوحى أحداثها من الظروف التي جاءت بالرئيس الديكتاتور خورخه أوبيكو بمساندة من الولايات المتحدة الأمريكية، وحدَّثنا فيها عن الدكتاتور وبطانته من المنتفعين، الذين يُسهمون بحجب الرؤية عمَّا يدور حوله.
وقرأنا (منزل العسكر) للروائي الشيلي خوسيه دونوسوا، التي يصوِّر في روايته جوًّا فانتازيًّا لطاغية يُدعى “فنتورا” يعيش في قصر ضخم، مملوء بالسلاحف، وآكلة لحوم البشر، التي تنهش في أجساد سكان المنطقة، ويكون أبناء “فنتورا” هم أول من تنهشهم هذه المخلوقات المتوحشة.
وقرأنا للإيطالية (أوريانا فالاتشي) روايتها (إنسان) التي تسرد فيها قصة موت حبيبها المناضل اليوناني اليكو باتاجوليس، الذي وقف ضد ديكتاتوره الذي قام بانقلاب عسكري في بلاده.
ولا ننسى (خريف البطريرك) لغابريال غارسيا ماركيز، الذي كان مباشرًا ولاذعًا في نقده للدكتاتوريات، وصوَّر عوالمها الموازية من فساد وانحرافات، في مجتمعات يسودها التخلف، وبالتأكيد الأمثلة كثيرة.
(5)
والكاتب المقاوم، قد لا يكون بوسعه أن يقوم بعمل انتحاري بحديث مباشر، لذلك نسمح له بأن يسلك طرقًا ملتوية للوصول إلى ما يريد، وقد يخرج لنا برواية رمزية نفهم من ضمنها رسائله.
قد نسمح للضعيف منهم بذلك، لكننا أبدًا لن نعفيه من دوره المفترض في تشكيل الوعي الجماهيري وتحريك الرأي العام، مؤمنون بأنه يجب أن يكون للكاتب الشجاعة للوقوف في وجه القمع والظلم، والكتابة بصدق وإخلاص، وتحريك النضال ضد الدكتاتور.
المهم لا عذر للكاتب أبدًا أن يصمت.