(1)
ما يحاول قادة الكيان فعله الآن في غزة، من تهجير قسري لشعبها، يذكِّرني بما فعله ستالين يومًا مع شعب كامل؛ نفس السلوك الهمجي، نفس البشاعة والإجرام، وإليكم الحكاية من أولها.
(2)
منذ قديم الزمان، كان القياصرة الروس على قناعة بأن من يحكم القرم يحكم البحر الأسود، فعملوا على ذلك، حتى نجحت الإمبراطورة كاترين الثانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في هزيمة العثمانيين، والسيطرة على القرم.
ومنذ ذلك الحين سعى القياصرة إلى محو هوية القرم، عبر عمليات الترحيل القسري للتتار حتى تناقص عددهم من حوالي ستة ملايين نسمة، زمن كاترين الثانية، إلى أقل من ثلاثة مائة ألف نسمة حين اندلعت الثورة البلشفية.
تلك الثورة التي منحتهم ستة أعوام من الاستقلال الذاتي، قبل أن ينالهم ما نال كافة شعوب الاتحاد السوفيتي من قمع ستالين.
تندلع الحرب العالمية الثانية، يكتسح الألمان شبه جزيرة القرم في أواخر السنة الثانية للحرب، صحيح أن بعض التتار انضم إلى صفوف الألمان كرهًا في الشيوعية، وسعيًا إلى الخلاص منها، إلا إن أعدادًا كبيرة من التتار انخرطت في صفوف الجيش السوفيتي، ربما طمعًا في تقدير الرفاق، الذين لا بدَّ وأن يمنحوهم شيئًا من الحرية.
تتوالى الأحداث ليبدأ الجيش السوفيتي هجومه المعاكس ويُلحق الهزيمة بالألمان، ويسيطر على القرم، وفورًا يباشر الشيوعيون في تنفيذ أحكام الإعدام بحق كل من اشتبه به التعاون مع الألمان.
غير أن الأمر استفحل فأصبح عقابًا جماعيًّا، وقرارًا بالتهجير القسري، يصدره ستالين في الثامن عشر من الشهر الخامس لعام 1945.
فتهاجم قوات الجيش السكان في بيوتهم، وتأمرهم بالتوجه في الحال إلى محطات القطار، وليجري شحن ما يزيد عن ربع مليون نسمة منهم في قطارات شحن البضائع والماشية في رحلة دامت حوالي أربعة أسابيع، ليصل من بقي منهم حيًّا إلى المنفى، سيبيريا والأورال وآسيا الوسطي، والأربعون ألف مقاتل تتري الذين حاربوا في صفوف الجيش السوفياتي ضد الألمان حينما يعود من ظل منهم حيًّا يجد أهله قد تم نفيهم.
تمر السنوات بطيئة متشابهة.
وفي عام 1956 يعترف خروتشوف بجرائم النفي والتهجير التي ارتكبها سلفه ستالين، يطلق سراحهم من المناطق المغلقة التي كانوا معزولين فيها، غير أنه لا يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم.
وفي عام 1968 يصدر إعلان رسمي بتبرئة تتار القرم من تهمة خيانة الوطن.
يخوض التتار نضالاً سلميًّا، مظاهرات واحتجاجات لم تكن معهودة في ذاك الحين، إلى أن تحل اللحظة المناسبة مع بوادر انهيار الاتحاد السوفيتي، ليعلن غورباتشوف حق التتار في العودة إلى ديارهم.
(3)
عام 2006 ذهبت إلى القرم، على أمل اللقاء بمن عاد من منفاه ليحكي لي الحكاية، لألتقي بعجوز محمل بالمستندات والخرائط، ليخبرني أنني سأجدهم في أطراف القرى وعلى سفوح الجبال، يسكنون فيما استطاعوا امتلاكه بعد أن عادوا ليجدوا بيوتهم مسكونة بمستوطنين روس.
ألتقي بعجائز تزيد أعمارهم عن الثمانين عامًا، يسترجعون من الذاكرة أحداثًا وقعت قبل أكثر من ستين عامًا، من حملات جماعية للتهجير، وأحكام إعدام بالجملة، ومساجد ومدارس دينية تهدم، وأوقاف تصادر، وأراض زراعية تستباح.
يصفون رحلة العذاب التي امتدت لأربعة أسابيع، كان الناس فيها أسرى العربات الحديدية للقطارات التي أقلتهم.
لا طعام ولا ماء ولا رحمة لطفل أو عجوز أو امرأة، كتل بشرية من اللحم والدم متكدسة في هذه العربات الصدئة، فإذا مات منهم من لم يحتمل، فإن الجنود يفتحون الأبواب ويقذفون بالموتى في الممرات المائية التي يمر بها القطار.
وفي المنفى يتركونهم في العراء، أو يسكنونهم في الحظائر، يجبرونهم على العمل في المزارع، يتركونهم دون طعام، يموت منهم من يموت إرهاقًا أو مرضًا، ممنوعون من مغادرة المناطق التي نقلوهم إليها، ممنوعون من التعليم، أو ممارسة شعائرهم الدينية.
كانوا يجلسون معي، يرغبون بشدة في سرد كل ما مرَّ بهم، غير أن السنين الطويلة وما لاقوه هناك أثر على ذاكرتهم.
ولأنه لا وثائق مصورة تثبت ما جرى، فإن رسامًا ماهرًا منهم، وُلد في المنفى، جمع حكايات ورسمها في لوحات تسجل الحدث المرعب.
(4)
انصت لحكاياتهم، وأتخيل في ذهني المشهد عند الترحيل القسري، صرخات العسكر وسياطهم تفزع الصغار والكبار، ينسون كل شيء سوى أن يصحبوا معهم مفاتيح بيوتهم، ووثائق تثبت ملكيتهم لأراضيهم، ومصاحفهم العتيقة.