(1)
المعارك محتدمة، والقائد السبعيني مصمم على زيارة جنوده على الجبهات، يشتكون له نقصًا في الذخيرة والطعام، يتوقع أن يسألوه النجدة، أن يجد لهم مخرجًا، لكنهم على العكس من ذلك يطالبونه بمواصلة الحرب إلى أن يهزم العدو.
يقول علي عزت بيغوفيتش في مذكراته: إن ذلك أدهشه، فهو خلاف المنطق تمامًا، ثم يحمد الله، معتقدًا أنه لو عمل البوسنيون بالمنطق لاستسلموا في بداية الحرب، فمن له بمواجهة رابع قوة عسكرية في أوروبا.
(2)
بعيدًا عن تعريف المنطق، واختلاف الفلاسفة والمفكرين حوله، فإن كلمة “المنطق” زاهية، توحي بالتعقُّل والحكمة؛ فالمنطق يعتمد على العقل فقط، بيانات وتحليلات تؤدي بنا إلى استنتاجات.
لكن هل فعلاً هذا أمر محمود، أن تعتمد في قراراتك على المنطق وحده؟
ثم ما الذي يضمن لنا إذا اعتمدنا على العقل، وأطلنا التفكير، وحسبنا المكاسب والخسائر، وأخذنا قراراتنا بناء على ذلك، ألا تكون خاطئة، ألسنا في هذه الحالة نكون قد فقدنا الأمرين، ثمرة التعقُّل، ولذة العاطفة؟
لو راجعتَ حياتك لوجدتَ نفسك قد اتخذتَ -أحيانًا- قرارات خاطئة لأسباب وجيهة، أو العكس، تغاضيت عن المنطق وفزت.
لماذا نقمع العاطفة، ونعتبرها رمزًا للضعف والهشاشة؟
هل يمكن أن نخوض في أمر صعب ونحن مجرَّدون من العواطف؟
أليست هي المسؤولة عن منحنا هذه الطاقة الجبَّارة التي تعيننا على أداء واجباتنا واختياراتنا الشاقة؟
اللذة المستحدثة من هذه العاطفة، ألا تستحق منا تغييب المنطق أحيانًا، والاعتماد عليها في أحكامنا؟
تخوض مغامرة تلو مغامرة، وعندما تشيخ تجلس تحاسب نفسك، كيف فعلت هذا، كيف جرؤت على أن تخوض ما خضته؟
تسأل نفسك عن الفعل، لكن لا تسأل نفسك عن النتيجة، فما كنت لتحصِّل ما حصلت عليه لولا هذه الجرأة، الجرأة الناتجة عن عاطفة وليس عن منطق.
كأنك بعد سنوات طويلة، ومع تراجع عاطفتك التي كانت متأججة حينها، تجلس وتحسب أمورك وفق المنطق، وتندهش كيف أغفلت المنطق، وفعلت ما فعلت!
(3)
تتجلى أزمة الصراع بين العقل والعاطفة في الحب!
وصلتني رسالة تقول صاحبتها: إنها في مقتبل علاقة مع أحدهم، وأنه بالمنطق فإن هذه الزيجة لن تتم، وإن تمَّت فلا تتوقع لها النجاح، ورغم ذلك هي ترغب فيها بشدة، وجاهزة لدفع الثمن.
هل خنتها أنا عندما نصحتها بأن تلزم العقل، فيما قناعتي تميل إلى العاطفة، شريطة أن يكون المرء مستعدًّا تمامًا لدفع الثمن، الذي هو في أغلب الأحيان غال جدًّا؟
لذلك صدق من قال: نحن نفقد المنطق عندما نعشق، أو ممكن أن نزيِّن الكلام ونقول: إن للقلب منطقه الخاص به.
ليس الحب وحده يغيب فيه المنطق، يقول ميخائيل نعيمة: “ليس من المنطق في شيء أن تباهي بالحرية وأنت مكبَّل بقيود المنطق”.
كأنه من الحرية أن تتمرد على المنطق.
وما هو الحل أيها السادة؟
يقول أبو المنطق أرسطو: “الإنسان مخلوقٌ عقلاني بالأساس، ولكنه يعيش حياته -أيضًا- بالعواطف. يجب أن يكون هناك توازن بين المنطق والعاطفة لتحقيق الحكمة”.
وينصح سقراط بأن “عليك أن تعرف نفسك؛ إذا عرفت نفسك جيدًا، ستكون قادرًا على تحقيق توازن بين منطقك وعواطفك”.
أما سيغموند فرويد فيقول: “الوعي يمثِّل قمة الجبل، ولكن العواطف تشكِّل الجزء الأكبر من الجبل، ولهذا يجب أن نكون حذرين دائمًا من الاندفاعات العاطفية”.
والخلاصة هي فيما قاله كونفوشيوس: “الحكمة تكمن في معرفة متى يجب أن نتبع المنطق ومتى يجب أن نتبع العواطف”.
(4)
أما أنا فمع ما قصده المفكر والرئيس البوسني، فبحسب المنطق، كيف للمسلمين دون جيش لهم أن يواجهوا آلية عسكرية جبارة مثل الجيش اليوغسلافي الذي ورثه الصرب، ولذلك هو يحمد الله أنهم لم يعتمدوا على المنطق، وإلا كانوا استسلموا من أول لحظة.
تمامًا مثل الحالة الفلسطينية التي تجلَّت في معارك السابع من أكتوبر؛ ففي هذه الحالة لن يواجه الفلسطينيون رابع قوة، وإنما كل قوى العالم، ورغم أننا ما زلنا في خضمها، ولا نستطيع الحكم عليها، إلا أننا إذا سألنا المنطق فسوف يجيب أن العقل ألا يحاربوا، يعني أن يقبلوا بالاحتلال ينكِّل بهم جيلاً بعد جيل، لذلك سُحقًا للمنطق.
الفلسطينيون ليسوا وحدهم في ذلك، ولا البوسنيون، كل أحرار العالم يفعلون ذلك، يغيِّبون المنطق عندما يكون العدو حاضرًا، فيتنام مثالاً، وعُد بعدها أمثلة أخرى كثيرة.
المنطق يخبرك أن المقاومة انتحار، وهو لا يمنحك بديلاً سوى الاستسلام، فإذا تحدثت عن الحرية والكرامة فإن المنطق لا يفهمها.
لذلك فإن المنطق أحيانًا ألا تُنصت للمنطق.