(1)
لا بأس من حصار ستالينجراد؛ فهي واحدة من قلاع الصناعة السوفياتية، وملتقى طرق هام، وأهم ميناء نهري في البلاد، وبوابة وحيدة -تقريبًا- إن شئتُ غزو القوقاز وبحر قزوين والسيطرة على آبار النفط الحيوية، والأهم أنها تحمل اسم عدوي ستالين، هكذا قرَّر هتلر.
(2)
في الشهر السادس لعام 1941، يبدأ سلاح الجو الألماني عمله بحملات قصف جوي عنيف ومتواصل، حولت مدينة (ستالينجراد) الجميلة إلى أنقاض وأطلال.
عبارة تُقرأ في عدة ثوان، فيما ثمنها غال جدًّا، والخسارات فادحة، ليس فقط على مستوى الطوب والحجر، ولكن على المستوى الأهم؛ الإنسان.
كالعادة، وبعد جرائم الطائرات تبدأ جرائم القوات البرية.
وكالعادة -أيضًا- يظن العدو أن الأمر سيمر كالبرق، فتبدأ الدبابات -ما أسمته: “حرب البرق”- بهجومات سريعة خاطفة، لا بدَّ وأن تسقط المدينة، يصل عدد الضحايا لأكثر من 70 ألف إنسان، ولكن المدينة تأبى، فلا بأس إذن من الحصار، لا ماء ولا كهرباء ولا تدفئة ولا وقود؛ ليعيش الناس مأساة معيشية حقيقية.
ولأن ميزان القوة كان يميل بشدة لصالح الألمان ضد السوفيات أصحاب المدينة، فإن المواجهة تأخذ شكل حرب شوارع، ليتمكن الألمان من إخضاع كامل المدينة -تقريبًا- بعد مقاومة شرسة واجهوها، إلا أنهم فشلوا في كسر آخر الخطوط الدفاعية للجيش الأحمر الذي تمسكت قواته بالضفة الغربية لنهر الفولغا.
(3)
غير أن الألمان كانوا يألمون أيضًا؛ فقد تسبب البرد والجوع في إنهاك الجنود، وتعطَّلت الآليات والمدرعات؛ لقلة الوقود، إضافة إلى نقص الذخيرة، فيما انتشرت الأوبئة في صفوف الجنود الذين يعانون نقصًا شديدًا في التغذية في أجواء شتاء قاسية، وقد اقتضت تدابير التقشف ألا تتجاوز حصة الجندي 200 غرام من الخبز والجبن والسكر في اليوم، وبات نحو 300 ألف عسكري ألماني مهددين بالموت جوعًا، فيما السوفيات ماضون في هجماتهم المضادة.
يزداد الأمر سوءًا برفض هتلر الانصياع لطلب قياداته بالانسحاب من ستالينغراد؛ حيث أمرهم بالبقاء مهما كلَّفهم الثمن، مع وعدهم بتزويدهم بالإمدادات عن طريق جسر جوي، وقيام قوات مساندة بهجوم مضاد.
غير أن هذا الهجوم المضاد فشل، وعجزت عمليات التموين بالجو عن نقل كميات كافية من المؤن والذخيرة لتغطية حاجيات الجيش، بل توقفت كليًّا بعد سيطرة الجيش الأحمر على المطارات التي تستعملها القوات الألمانية سواء التي داخل المدينة أو القريبة منها، وفي غضون ذلك تتمكن فلول الجيش الرابع الألماني من إحداث ثغرة في الجبهة الجنوبية فتنسحب إلى أوكرانيا، في حين يبقى الجيش السادس عالقًا في ستالينغراد.
(4)
في الشهر الحادي عشر من عام 1942، يُطلق السوفيات هجومهم المضاد، لينهار أمامه الجيش الألماني السادس الذي اضطر قائده فريدريك باولوس للاستسلام في 2 فبراير 1943 ومعه أغلب قواته البالغ عددها 300 ألف، رغم مواصلة البعض الآخر القتال إلى أن تم تصفيتهم.
تقول الأرقام: إن معركة ستالينغراد استمرت حوالي ستة أشهر، خسر فيها الألمان 1.5 مليون شخص بين قتيل وجريح وأسير، وإن ذلك كان يعادل ربع القوات الألمانية العاملة على الجبهة الروسية – الألمانية.
لقد تعرض الجيش الألماني لثاني أكبر خسارة له في الحرب العالمية الثانية، والتي كان لها الدور الأكبر في تحول مجرى الحرب العالمية الثانية، فلم يستعد النازيون قوتهم السابقة، ولم يحققوا بعدها أي انتصار إستراتيجي في الشرق.
نعم لقد تداعى جيش العدو شيئًا فشيئًا، بعد هزائم متكررة، وصمود من الأهالي، وملاحم قتالية من الجنود السوفيت، تمامًا كما سيكتب التاريخ يومًا -بإذن الله- عن تداعي الجيش النازي في غزة وهزيمته.