(1)
“جون هيرسي” صحفي حربي شهير، غطَّى الحرب العالمية الثانية، وكتب عن أحداثها 14 كتابًا، يعتمد أساليب الكتابة الأدبية والروائية في سرد الأحداث والوقائع السياسية والحربية، له كتاب مشهور يوثِّق فيه حياة ستة من الناجين من قنبلة هيروشيما.
ثمة فتاة تُدعى: “ماري كولفن”، تتابع درسها الأول معه بشغف، وبانتهاء الحصة ينتهي ترددها حيال ما ستفعل في مستقبلها، لقد بهرها تمامًا النموذج الذي صنعه هيرسي لصحفي الحرب، تقرر أن يكون هذا هو تخصصها.
(2)
الحقيقة أن حكاية ماري الأمريكية تبدأ قبل ذلك بكثير، ربما عام 1970، حين تباشر في تسجيل يومياتها وهي في عمر الثلاثة عشر عامًا، بل تحاول كتابة أول رواية لها، ولأن مشروع أي روائي ناجح هو أن يكون مندمجًا في مجتمعه وليس معزولاً عنه، فإنها تخرج إلى الساحة العامة للمدرسة، على الرغم من تحذير أمها، ممسكة بلوحة عليها صور جنود صغار السن قُتلوا في فيتنام ومكتوب تحتها: “أوقفوا الحرب”.. “نريد السلام”.
وحين تسافر إلى البرازيل -بعد ذلك بثلاثة أعوام- لتعلم البرتغالية، ترسل ممتعضة إلى والدها رسالة تخبره فيها أن الشعب هنا لا يستطيع التعبير عن قناعاته السياسية؛ بسبب قبضة النظام.
تعود إلى بلدها وتلتحق بالدراسة الجامعية، وتعمل في وكالة تسويق، لكنها طوال الوقت مهووسة بالحديث في أمور السياسة، تقتني كل يوم صحيفة (نيويورك تايمز)، وتحرص على قراءتها كاملة.
في العاشر من يوليو/ تموز عام 1977 يتوفى والدها مريضًا، تهتز بشدة، لا يواسيها سوى عزمها أن تحقق حلمه بالكتابة، ذاك الحلم الذي لم يستطع هو تحقيقه لنفسه.
(3)
تظهر في حياتها الصحفية “مارثا جيلهورن”، وهي الأخرى صحفية حرب، غطَّت الكثير من الحروب حول العالم، منها بضع سنوات في إسبانيا حيث الحرب الأهلية الإسبانية، وجمعت قصصها الحربية التي عاشتها في كتابها: “وجه الحرب”، إنها قدوة أخرى لماري باعتبارها امرأة شجاعة في وسط ميدان الحرب.
تنهي دراستها الجامعية، وتتقلب في عدة وظائف كصحفية، لكن حلمها كمراسلة حربية لم يتحقق بعد، إلى أن تصل إلى فرنسا في العام 1986، وخلال عملها هناك يُطلب منها السفر إلى المغرب؛ لتغطية مؤتمر القمة العربية، فيما التوتر على أشده بين القذافي والولايات المتحدة الأمريكية.
تقرر ماري خوض مغامرة فريدة من نوعها بالبحث عن طريقة تعقد بها لقاء صحفيًّا مع القذافي، تسافر إلى ليبيا بعد انتهاء القمة العربية، وتنجح في تدبير اللقاء، وتتصدر المقابلة صفحات الجرائد الأولى في الولايات المتحدة، وفي إذاعة (بي بي سي)، وكان ذلك مفاجأة لأسرتها.
تنتقل للعمل في جريدة (الصانداي تايمز) البريطانية في سبتمبر/أيلول 1986، أي بعد حادثة القذافي ببضعة أشهر فقط.
تبدأ مهامها بالتوجه إلى واحدة من أخطر المناطق في ذلك الزمن وهي بيروت، تنجح في عقد مجموعة من اللقاءات مع قادة المجموعات العسكرية لحركة التحرير في لبنان.
تنشر في صحيفتها أنها قابلت أحد أعضاء جمعية أمل المقاومة، وقد أهداها قميصًا ممزقًا بثماني رصاصات من رشاش إسرائيلي، وقال لها: لقد شاهدتِ قميصًا مثل هذا في فيلم رامبو، لكنه كان مجرد فيلم، أما رامبو الحقيقي فهو نحن.
تسافر إلى فلسطين، وتلتقي ياسر عرفات، ثم العراق، وتغطِّي أحداث غزو صدام حسين للكويت، وفي السنوات اللاحقة تسافر إلى أفغانستان لتقابل الملا عمر قائد حركة طالبان، حتى إنها تصل كوسوفو لتسجل واحدة من أهم اللحظات الصحفية في مسيرتها، حيث كتبت صحيفتها: إن ماري أول صحفية أوروبية تستطيع الدخول إلى معاقل القتال في كوسوفو .
في بدايات العام 2001 تلتقي ماري في لندن بثلاثة أشخاص يدعونها إلى مقابلة قائد حركة المعارضة في سريلانكا، والتي عرفت باسم: حركة نمور التاميل، تنهي مهمتها، وفي طريق عودتها تصل الحدود الفاصلة بين الحكومة والمعارضة، تحاول لثلاثة أيام الخروج ولا تفلح؛ بسبب إطلاق النيران المتبادل.
تسير مسافة ثمانية أميال ضمن مجموعة من المدنيين والمقاتلين، ثم فجأة يتعرضون لإطلاق رصاص، تحاول الاختباء، لكن رصاصة تصيب عينًا لها، تصرخ، يصيح من حولها: “صحفية.. صحفية.. مِن أمريكا”.
قلبها يدق بشدة، تجاهد للتنفس، كان واضحًا أنها على وشك الموت، يتدخل السفير الأمريكي، وتهبط طائرة مروحية لتحملها إلى مستشفى العاصمة للعلاج، لتعيش بقية حياتها بعين واحدة.
(4)
محملة بذكريات لقاء القذافي تسافر إلى ليبيا فيما ثورتها متقدة، لكنها هذه المرة الثانية قد تجاوزت الخمسين من عمرها، تصف الوضع قائلة: كما لو أنني في إعادة إنتاج لحصار ستالينغراد، لقد كنت نائمة على أرضية إحدى المشافي، وكلما سمعت الأطباء أو مقاتلي المعارضة يصرخون: “الله أكبر” كنت أعرف أنهم يستقبلون مصابًا جديدًا برصاص قوات القذافي.
تحضر رفقة مصور زميل يدعى ريتشارد مقتل القذافي، تكتب في صحيفتها: تحت النياشين العسكرية التي تقلدها، كانت عيناه مغلقة ومظلمة، لم يسبق أن رأيت الناس يحتفلون كما احتفل الليبيون بسقوطه، كان دائمًا ما يصف نفسه بـالقائد والمعلم والأخ الأكبر، لكنني لم أر في عيون أي أحد هنا شفقة أو تعاطفًا نحوه، لقد كان مكروهًا.
وبينما كانت ماري في ليبيا تشهد الأحداث هناك انطلقت التظاهرات في سوريا في 8 أبريل/نيسان في مختلف المدن مطالبة بإسقاط بشار الأسد.
تتوالى الأحداث بسرعة، تنجح مجموعة من الشباب في مدينة بابا عمرو بمدينة حمص في تكوين مركز إعلامي للمدينة؛ لنقل فعاليات الثورة،كما استطاعوا التحصل على جهاز يمكِّنهم من القيام بالبث عبر الإنترنت، والقيام بمكالمات (سكايب) دون الدخول إلى شبكة الإنترنت المحلية التي تسيطر عليها الدولة.
تقضي ماري وقتًا طويلاً تتردد على السفارة السورية محاولة الحصول على تأشيرة، لكن طلبها يؤجَّل دائمًا، تعرف أن اثنين من زملائها في صحف أخرى حاولا الدخول إلى سوريا تسللاً من الحدود اللبنانية، لكنهما فشلا، لكنها تقرر أن تحاول، تنجح بالفعل وتصل إلى بابا عمرو.
تبدأ في الأيام التالية لوصولها التحرك في المدينة، تجلس مع الناس، وتسمع حكاياتهم، تدخل المشافي البدائية الميدانية، والتي كانت تحاول إنقاذ المصابين بما يتوافر لها من إمكانيات.
تقضي هناك أيامًا لا تسمع فيها سوى صوت القصف والقذائف المستمرة، وتكتب في (الصانداي تايمز):
“في بعض الشوارع تجد كل المباني قد انهارت بالكامل، لن تجد هناك سوى ملابس ممزقة وأوانٍ محطمة وأثاث منزلي مُلقى هنا وهناك، ليس هناك أي متاجر تعمل، الأسر تشارك مع بعضها البعض ما يملكونه، الكثير من الناس يخشون الحركة في الشوارع حتى لا تقتلهم رصاصات القناصة، ومن يخرجون للبحث عن الطعام عادة ما يكون مصيرهم الموت”.
يحاول زميلها المصور بول إقناعها بالمغادرة بعد أن أنجزت ما يكفي، تتجه معه نحو نفق في المدينة استعدادًا للرحيل عنها رفقة مجموعة من المواطنين، في الطريق تصلها أخبار أن القوات السورية قامت بعدة ضربات جوية ضخمة، فتصر على العودة رغم معارضة زميلها المصور.
تتوالى مشاهد الموت أمامها، تتأثر بشدة، تقرر الظهور في بث مباشر مع إحدى القنوات، معتقدة أن ظهورها مع قناة ظأمريكية سوف يساعد في تأليب الرأي العام، ترفض صحيفتها الأمر، لكنها تصر، فلم يكن الأمر بالنسبة لها مجرد عمل صحفي، إنما كانت جادة في محاولة أن تفعل ما في وسعها لإيقاف مذبحة قوات بشار.
(5)
صبيحة الثاني والعشرين من فبراير/شباط عام 2012 يجري اللقاء:
(هنا في هذه المدينة 28 ألف مدني، بينهم نساء وأطفال في مدينة يسودها البرد والجوع، يتضورون جوعًا لا حول لهم ولا قوة، لا توجد هنا هواتف ولا تيار كهربائي، ويشارك العائلات مع بعضهم البعض ما يمتلكونه، المئات هنا يعيشون منذ أسابيع على الماء والسكر، هذا الفتى الصغير الذي ترونه على الشاشة هو أحد ضحايا القصف الذي تتعرض له المدينة، النظام السوري يدَّعي أنه يهاجم الإرهابيين وليس المدنيين، لكن كل المنازل المدنية هنا تعرضت للقصف، لا توجد أي أهداف عسكرية هنا في هذه المدينة، هذه كذبة كبيرة، هذا أسوأ صراع رأيته في حياتي، لقد بدأ الأمر هنا كثورة سلمية، لكنه انتهى بتعرض المشاركين فيها لمذبحة، كما كان الحال في حَماة في الماضي، والكلمات على لسان الجميع هنا هي: “لماذا تخلى عنا الجميع؟ لماذا؟”).
ما إن ينتهي البث حتى يقترب القصف من المكان الذي بثت منه، لقد حددوا مكانها بدقة، يزداد القصف شراسة، فجأة تطيح بهما قذيفة، ينجو مصورها، وتموت هي.
(6)
سؤال: أي مكافأة يمكن أن نهديها لهؤلاء الذين يحاولون نجدة أناس لا تجمعهم بهم لا معتقد ولا قومية؟!
سؤال آخر: أي دعوات معبرة يمكن أن يلهج بها الناس لينتقم رب العالمين من هؤلاء الذين أنزلوا بآخرين أشد أنواع العذاب، أناس ليسوا جيرانهم، بل هم منهم؟!