علامة استفهام 19: هل يخدعنا المتفائلون؟
(1)
قررت أن أكون مملًّا، بأن أعيد على مسامعكم ما كنت قد ذكرته: تستفزني تعليقات اليائسين، الذين يعتقدون أن الحديث عن الأمل لا يزيد الطين إلا بلة، وأن الواقع يفيد أن الأسوأ لم يأت بعد، وأن الناس في حاجة إلى من يساعدهم على الإقرار بما ينتظرهم، مثل طبيب يبحث كيف يبلغ مريضه أنه ميت لا محالة، وأن كل حديث عن المحاولة والمقاومة ومواجهة المستحيل محض بلاغة أدبية، كلمات مزركشة جميلة يمكن أن نرددها ونزين بها أحاديثنا، لكن لا أساس لها من الصحة، ولا تجدي نفعًا.
(2)
ظني أن ذلك إنما هو شعور طبيعي لمن يعيش حقبة مثل تلك التي نعيشها، حقبة تراكمت فيها المآسي، من أوبئة، وتحولات بيئية، وظلم، وقمع، وفشل ثورات، وانهيارات مجتمعية، وأزمات اقتصادية.
لكن في المقابل يتوجب على اليائسين أن يجربوا كل المحاولات قبل الاستسلام، وأن يتبعوا كل الوصفات العلاجية المتاحة.
(3)
ظني أن الحكمة تقول: إن أولى الخطوات هي الاعتراف بالواقع كما هو، وعلى حقيقته، وبكل تعاسته، ولا نحاول تزيينه، أو التخفيف من مأساويته وسوداويته، يجب ألا نكذب على أنفسنا، علينا أن نقر بكل شيء، وأن نعترف بأن تغيير الواقع ليس بوسعنا على الأقل في الوقت الحالي، أو هو يحتاج إلى عزيمة وإرادة واستعداد للتضحية، وهو أمر ليس في مقدور الجميع.
ثم نحاول أن نتكيف مع هذا الواقع؛ أن نجد طريقة للتعامل معه، كقدر لا نستطيع تغييره، كجارٍ مزعج لا نستطيع أن نزيحه من مكانه، كمرض عضال لا فكاك منه.
ثمة فارق كبير بين الاعتراف به والاستسلام له، علينا أن نعترف به ولا نستسلم له، أن نكون أكثر ذكاء، أن ندرسه جيدا، ثم نتدرب على التعامل معه، حتى يمضي هو وننجو نحن.
ثم أن نكفَّ عن الشكوى، هذا الفعل الذي يلازمنا ليل نهار، نحن نشتكي من كل شيء حولنا، من كل الظروف، من كل الناس، من كل الأنظمة، من كل الأفكار والاقتراحات والمشاريع، من الذين ضدنا، وحتى من الذين هم معنا، فإذا لم نجد من نشتكي منه شكونا من أنفسنا.
وفي هذا الفعل المشين، نفقد ما تبقى لنا من أي طاقة إيجابية، الشكَّاء يستنفد بخطيئته هذه أي عزيمة لديه، تنهار كما تنهار جبال الجليد الآن في القطب الشمالي.
الأهم أن نحمي أنفسنا ولو اضطررنا أن نعيش في فقاعة، نحن في هذه الحالة من الضعف في حاجة ملحة لأن نحذر من المتشائمين والمحبطين، وأصحاب الطاقة السلبية، نتجنبهم ونبتعد عنهم، إنهم بكل سهولة ينقلون لنا عدوى الإحباط والكآبة، جلسة واحدة معهم تصيبك باليأس، يخبرونك أننا هلكى بالتأكيد، وأن لا بصيص من أمل، وأن التفاؤل خدعة، فما بالك لو كان هذا المحبط زميلًا أو صديقًا أو قريبًا، يحيطك بسمومه ليل نهار؟
(4)
لماذا لا نتمسك في هذا المحيط الهائج ولو بقشة؟ لماذا لا نبحث عن أي نقطة ضوء في حياتنا ونتبعها، عن أي انفراجة أو أي انجاز ولو صغير، نستأنس به، نعالج به أنفسنا، نقويها؟ لماذا لا نكتشف ونستخرج الطاقة الكامنة بداخلنا؟
كل المدن التي حوصرت في الحروب وقاومت ولم تستسلم انفجرت فيها طاقات لم يكن يتصور أبناؤها أنهم يمتلكونها، نحن لا نكتشف أنفسنا في الرخاء، نحن نعرفها حق المعرفة في الأوقات العصيبة.
تحديدًا الأذكياء منا هم الذين يفعلون ذلك، يؤمنون بقواهم الداخلية، يعرفون كيف يصلون إلى مكامن قوتهم، يعترفون بنقاط ضعفهم ولا يتجاهلونها، يتسللون إلى نقاط قوتهم ويكبِّرونها، لا ينتظرون النجاة من الخارج، يؤمنون أن النجاة من الداخل.
الحركة تنقذك وليس السكون، هل تعرف أن الذي يتعرض للغرق إذا رفع يديه فوق الماء غرق، وإذا استمرَّ يحرك يديه وقدميه ربما نجا.
الغريق يغرق إذا استسلم للخوف، وربما ينجو إذا قاوم بكل ما لديه من قوة، ملعون هذا الخوف الذي يقتلنا في اليوم ألف مرة، إذا كان ما نخافه سيقع، فلم لا نستمتع بأيامنا إلى أن يقع؟! لماذا نموت قبل أن نموت؟!
(5)
ثم أليس من المحتمل أننا بالأساس نبالغ كثيرا في نظرتنا التشاؤمية لما يجري؟ ألم تعودنا الدنيا أن لا شيء يدوم؟ الخير لا يدوم ولا الشر، يسر الحال أو صعوبته، كل شيء يتبدل، يقول روبن شارما في كتابه “اكتشف مصيرك”: حين نواجه أوقاتا عصيبة، نعتقد أن الطريقة التي نرى بها العالم تعكس حقيقته، وهذا افتراض خاطئ، إننا ببساطة نرى الأشياء خلال أعين حزينة ويائسة، وحقيقة الأمر أننا حين نبدأ في الشعور بتحسن سيبدو العالم أفضل.
ألم تمر بهذه الحالة: في غضبك ترى كل شيء حولك حالك السواد، وفي فرحك، وحتى لو كان محدودًا، تتغير نظرتك إلى ما حولك وإلى الدنيا كلها؟
(6)
ثم لدي سؤال آخر: إذا كنت تعتبر نفسك خاسرًا، فما الذي يمكن أن تخسره أكثر إذا حاولت وفشلت؟ ألا تعتقد – حتى لو فشلت – أنك ستكون في مقام أفضل ولو قليلًا مما أنت فيه الآن.
وهب أن الحال تغير، هل أنت مستعد له، أم ستبدأ الاستعداد بعد أن يتبدل الحال؟ المسجون الذكي هو الذي يحاول تعلم مهنة أو دراسة، وهو يقضي سنوات السجن، فإذا انقضت لا يبدأ من الصفر، هل أنت مستعد لما بعد هذه المرحلة أم تريد أن تبدأ من الصفر؟
(7)
لا يخدعك الذي يقول: إن أي حديث عن الأمل هو محض بلاغة، هو كذلك بالفعل لضعاف العزيمة والإرادة، طبعًا لو كان الأمر سهلًا لتساوى الناس، يتفاضل الناس بالبذل، بالدأب، بالحركة التي لا تهدأ، بالإيمان بالعاقبة، باستنفاد كل الطاقات، بقتل كل الأعذار.
يقول نجيب محفوظ في “أصداء السيرة الذاتية” على لسان الشيخ عبد ربه التائه: “جاءني قوم وقالوا: إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة. فقلت لهم: تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة”.
قم فتحرك واصطنع البهجة، فذلك أفضل ألف مرة من تَلَبُّس التعاسة.