علامة استفهام 21: هل أنت خيالي؟
(1)
“في الذهن يكون الناس إمَّا أحرارًا أو سجناء”.
أفونسو كروش
كل أمر يبدأ من داخلك، حتى وإن بدا أنه خارج عن سيطرتك، وأن الظروف هي التي أجبرتك، فالحق أن حارسك الذي عينته بنفسك، هو الذي زج بك في زنزانة اخترتها أنت أيضا بنفسك، في سجن أنت بنيته بنفسك، فإذا قيل لك: انطلق، لماذا تقف هكذا مكتوف الأيدي؟ تباكيت وقلت: كيف وأنا رهين محبسي؟ يا للعجب!
(2)
“ليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظمُ وجودٍ من الخيال”.
ابن عربي
الحق أنك اليوم صنيعة خيالك، “أنت” ما تخيلتَه، والحق الذي لا تريد الإقرار به هو أن الحياة سخية مع من يعيش أسطورته الشخصية، من كسر قفل الزنزانة، وانطلق من سجن يكتشف لاحقًا أنه لم يكن سوى بيت من العنكبوت.
أطلق خيالك حتى تكتشف من أنت، حتى تُشَكِّل من ستكون، تجاوز ما هو محيط بك والظروف المهيمنة، وانطلق بعيدا، احلم واحلم واحلم، ما في الحلم من عيب، ما في الخيال المنطلق من عار، ذلك الخيال هو من سيشكل يومك التالي ومستقبلك القادم.
كبيرًا قمتُ بأمور كثيرة كنتُ أحلُم بها وأنا صغير، بل إني أكتب أحيانًا بعض المقالات وأنا أبتسم، ذلك أن الفكرة لم تأتني في التو، وإنما جاءتني عندما كنت صغيرا.
وأنا طفل دون الحادية عشر من العمر، كان أحلى وقت في يومي الصيفي عندما يحل المساء، وبعد أن أنهي لعبي في الشارع مع أقراني، ثم أصعد لأجلس مع أبويّ في الشرفة، هما يتناولان القهوة ويتبادلان الحديث، وأنا أنزوي في ركن وأطلق لمخيلتي العِنان، أفكر في كل ما أتمناه وأحلم به، انطلق بعيدا غير معنيٍّ بأي قيود أو عقبات، كنت أجول العالم كله، وأخوض في كل المجالات، ثم أعود إلى حيث أنا، وظلت هذه عادتي.
المرء يكبر وتكبر معه أحلامه وخيالاته..
واثق أن سيمون بوليفار – مثلا – كان يفعل ذلك وهو صغير، وعندما كبر، ورغم ثراء عائلته، فإن خياله وأحلامه ظلت تدور حول تحرير أمريكا اللاتينية من نير الاستعباد والاستعمار الإسباني، مثله مثل مارتن لوثر كينج الذي قاد ثورة تحرير الأمريكيين السود من العبودية والعنصرية والاضطهاد.
كل الزعماء والقادة التاريخيين لم يولدوا هكذا قادة، وإنما تميزوا عن غيرهم بالحلم، بالخيال الذي كان ينطلق هنا وهناك، كلهم بدأوا من الصفر، وربما من تحت الصفر قليلًا، كلهم كانوا يحلمون ويتخيلون قبل أن ينطلقوا على أرض الواقع.
تماما مثل العلماء والمكتشفين..
تماما مثل الكتاب والروائيين والأدباء والفنانين..
كلهم استلهموا أعمالهم من خيالات أطلقوها..
الخيال هو العصا السحرية التي تحيل الحياة من حال إلى حال..
ألبرت أينشتاين، عالم الرياضة والفيزياء الشهير، يقول: “الخيال أكثر أهمية من المعرفة، المعرفة محدودة، الخيال يطوق العالم”، وهو ذاته الذي قال: “الإبداع خيال، والخيال للجميع”.
ابن بلدنا أحمد زويل ذكر مرة أن الجميل في أمريكا أن الخيال لا يُقتل، وليست له حدود، وكل المؤسسات تشجعه، والعالم الحقيقي المحب لعلمه لا بد أن يحلم، وإذا لم يتخيل العالم ويحلم، سيفعل ما فعله السابقون، ولن يضيف شيئا.
دعك من مشاهير الناس، ابحث بين من تعرفهم من البسطاء، الجيران والأصدقاء والزملاء، ستجد بينهم ألف مثال للعلماء والفنانين والأدباء، هم مثلهم حالمون، صحيح لم ينالوا شهرة، لكنهم حققوا ذواتهم واستمتعوا – وهو المهم – بعد أن أدركوا قيمة الاستثمار في الخيال.
عامل في أحد المحلات كان يحلم بأن يكون مالكها.. وقد فعل.
موظف إداري تخيل نفسه في عالم مختلف عن السجلات والتواقيع.. وقد نجح.
مصاب بإعاقة جسدية يطمح إلى ما لا يطمح إليه من هم في مثل حالته.. وينتصر.
شابة بسيطة تطمح إلى وظيفة قيادية تثبت بها جدارتها وجدارة بني جنسها.. وتفعل.
ألف مثل ومثل حولنا.. لكننا أحيانا نكتفي بالقعود وبالشكوى.
(3)
“إن الواقعية التي لا ترى ما هو أبعد من الأنف أشد خطرا من الخيال الجامح المجنون لأنها عمياء”.
دوستوفسكي
باستهزاء وازدراء نصف الشخص أحيانا بأنه “خيالي”، نقولها وكأننا بطريقة غير مباشرة نمجد ذاتنا ونثني على أنفسنا بأننا أشخاص واقعيون يعيشون على الأرض، لا حالمون ولا مثاليون.
والحقيقة أن الأمر لا هذا ولا ذاك، والحقيقة أيضا أن التطرف مذموم في كل الأحوال، لا تتخيل نفسك وأنت في الستينيات من عمرك أن تكون لاعب كرة متفرغا مثلا، ولا تكن واقعيا إلى الحد الذي لا ترى فيه أبعد من موطئ قدميك.
الخيال الذي يُوَلِّد فيك الإبداع، غير الوهم الذي يقصم ظهرك..
الخيال محفز للعمل، طاقة جبَّارة تدفعك للأمام، لكن إن عشت فيه كأحلام يقظة، ولم تعمل على تحقيقه، فهذا هو الوهم.
الوهم أن تغذي عقلك بالخيالات مستحيلة التحقيق، هي تكبر فتصبح وحشا يلتهمك، تستولي على روحك، وتقيدك وتعجزك تماما، إنها هنا مثل المخدرات، تعطيك سعادة مؤقتة زائفة، وتمنحك وعودا غير حقيقية..
أمَّا إن غذيت عقلك بالخيالات الخصيبة المثمرة، فإنها تدفعك للأمام، مثل الوقود للسيارة، أو الطعام للجسد.
(4)
“لولا الخيال لانفجرت”.
محمد شكري
الخيال هو منقذنا في زمن الخيبات..
نحن في حاجة إليه للاستمرار في الحياة والتمرد على صرامتها، من أجل التفكير الجدي في تغييرها للأفضل، من أجل مواجهة فظاعاتها.
نحن نلجأ للخيال – كما قال الكاتب البريطاني كولن ويلسون – ليس للهروب من الواقع، وإنما لخلقه..
نصيحة جميلة أسداها يوما الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي للروائي المصري إبراهيم أصلان، قال له: إن على الواحد منا أن يعيش ويراقب ما شاء، بشرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها ألا ينكسر قلبه.
الخيال ليس مخدرا، الخيال ليس هروبا من القبح، من الرعب، من المظالم الاجتماعية، وإنما بالعكس تماما هو تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاما مع انتصاراته الإنسانية والأخلاقية.
الخيال استشراف للقادم، واستعداد له، وهو أداتنا لصنع واقع أفضل، وتجاوز خيباتنا وانكساراتنا..
هو دواؤنا لداء الألم والواقع الكئيب، وأداتنا للتغلب على هذا القبح الذي نعيشه.
(5)
إذا تشابهت الأيام فهذا يعني أن الناس توقفوا عن إدراك الأشياء الجميلة في حياتهم. باولوكويلو
يا ويلك إن لم يكن لك رصيد من الخيال..
أنت لا تدرك مصيبتك..
كالذي اعتاد الرائحة الكريهة فكف عن شمها..
صدقني دون خيال لا يتقدم المرء خطوة للأمام، بل يعتاد وضعه السيئ، ويقوم بالتطبيع مع الفشل والإحباط واليأس..
لا تجعل الأيام تتشابه عليك..
الخيال لا يحده زمان ولا مكان..
الاستثمار في الخيال يمكن أن يبدأ في أي وقت وفي أي مكان..
“الخيال ليس له عُمر والأحلام أبدية”، كما قال والت ديزني..
(6)
وأخيرا.. هل ترى في كلامي أي منطق؟!
حسنًا لا تنسَ أن هناك ما هو أهم من المنطق، إنه الخيال..
بحسب ما قاله ألفريد هتشكوك.