علامة استفهام 26: كيف نفرح ونحن حزانى؟
(1)
يُهيأ لك أحياناً أن الحزن ليس مشاعر بين جنبيك بقدر ما هو كائن يمكنك أن تلمسه أو تمسك به، كائن يقف أمامك وفي مواجهتك، ينظر إليك وتنظر إليه، يحاصرك، يحيط بك عن يمينك وعن شمالك ومن فوقك ومن تحتك، كائن عملاق يمكنه في أي لحظة أن يبطش بك، أن يجمد حياتك أو أن يدمرها عن آخرها.
(2)
في الماضي وبحكم عملي، كنت أسافر فألتقيه وجهاً لوجه، في أحداث ومشاهد أراها بعيني أو من حكايات أسمعها من أبطالها أو شهود عليها، في حرب، في مذبحة، عند طرف مقبرة جماعية، أمام بوابة معتقل قديم، في خيمة لاجئ، من عجوز، من طفلة، من أم أو زوجة، من شاب أو صبية.
وفي ذلك كله كنت أراه مهيمناً في عيون الناس، مسيطراً على سكناتهم وحركاتهم، فإذا ما عدت إلى موطني وجدت الأمور تسير على ما يرام، والحياة تجري مجراها الطبيعي، وكأن لا شيء يجري هناك.
حينها كان الحزن استثناءً، يضرب ضربته في منطقة ما ثم يرحل إلى أخرى، أما نحن معشر الصحافيين فكنا نهرع إلى حيث يحل، آملين أن نفضحه، أن ننقل للعالم حكايات ضحاياه الذين لا يعرف أحد عنهم شيئاً، ونقول للناس انظروا ماذا فعل الحزن بهم.
دارت الأيام وأصبح الحزن الآن هو سيد العالم، مهيمناً في كل الأنحاء، سائداً في كل البلاد، بل يكاد يكون في كل البيوت، ثورات وثورات مضادة، وديكتاتوريات شرسة، أزمات اقتصادية وفواجع طبيعية وكورونا وغيرها.
في الماضي كنت أرى الحزن يكاد يكون حكراً على الكبار، الذين طحنتهم سنوات العمر بأثقالها وأحداثها، أما الآن فإني أراه يحتل وجوه الصغار، شباب ما زالوا في مقتبل أعمارهم تجدهم يحملون هموماً تنوء بها الجبال، مهاجرون أو لاجئون أو مشردون، بعيدون عن عائلاتهم آلاف الأميال، تسأل الواحد منهم عن رفاقه فيخبرك أنهم موزعون بين المعتقلات والمقابر، وماذا عن مستقبلك أنت؟ ينظر إليك بابتسامة ساخرة ويرحل.
(3)
من أصعب المهام في الحياة أن تواسي مكلوماً، أنت لا تستطيع أن تمتنع، لا بد أن تفعل، لا بد أن تربت على كتفه، أو تعانقه، وتقول له أو لها أو لهم ما يخفف عنهم، لكن هل فعلاً هناك كلمات يمكن أن تخفف عنهم؟
أتذكّر دائماً في هذه المواقف كلمات شكسبير: “كل إنسان يستطيع السيطرة على الحزن إلا الحزين”، من العبث أن تطلب من الحزانى ألا يحزنوا، أنت لا تدرك أبداً ومهما تعاطفت معهم ومهما كنت قريباً منهم قيمة ما فقدوه، أشعر بأن ما يمكن أن أقوله في مثل هذه المواقف هو تقليلٌ من مصابهم وقيمته، أتمتم بكلمات كأني أرفع عن نفسي فرض المواساة، أقولها باحتراس، حتى لا تمسّ مشاعرهم المتأججة.
بعد الجنازة، أو بعد العودة من المقبرة، أو بعد الرجوع من المخيم أو المعتقل، لا أعود كما كنت قبله، حتى ولو كان الأمر لا يخصني شخصياً، فما بالك بالمكلوم نفسه؟
أتذكر أول مواساة عشتها في حياتي، كنت طفلاً حين فقدت إحدى عائلات بنايتنا في السويس عائلها، فأعلن السكان كلهم الحداد، فلا تسمع صوت راديو أو تلفزيون وأنت في حرم البناية، كانت أمي وجاراتها يتحدثن فيما بينهن عن المصيبة التي وقعت على جارتهن ويبكين، ويبادرن إلى تقديم أي مساعدة لها، إلى أن انتهت فترة الحداد. كان نوعاً رائعاً من التضامن لا أنساه أبداً.
بعض الناس صادقون في أحزانهم، بعض الناس صادقون في مواساتهم.
(4)
عندما سافرت خارج عالمنا العربي كان من أكثر الأمور التي لفتت نظري اختلاف طرق تعبير الناس عن أحزانهم، لا صراخ ولا عويل وإنما وقارٌ وسكون، لا يعجبنا نحن ذلك، نَصِف الناس هناك بأنهم باردون، مشاعرهم متبلدة، فهل هم كذلك حقاً؟ وهل المظاهر التي يبديها بعضنا من صراخ ولطم وغيرهما في أحزاننا تعكس صدق مشاعرنا أم أنها نوع من النفاق؟ هل هناك حزن صادق يسكن القلب حتى وإن ابتسمنا، وهل هناك حزن كاذب قد يختبئ وراء البكاء والصراخ؟
في البوسنة والهرسك تعرض المسلمون لمذابح جماعية على يد الميليشيات الصربية التي دفنت الضحايا في مقابر جماعية، وإمعاناً في التشويه كانت تقوم تلك الميليشيات بعد فترة بنقل أجزاء من الجثث بين المقابر حتى يصعب على الهيئات الدولية ومن ثم الأهالي العثور على جثة الضحية كاملة والتعرف عليها.
كل بضعة شهور كانت المنظمات الدولية تقوم بدعوة أهالي الضحايا الذين لم يعثروا على جثث أقربائهم لزيارة مكان مهيب جمعت فيه ما وجدته من الأشلاء مع بعض المتعلقات لعل الأهالي يتعرفون عليها.
يوماً استقللت الحافلة معهم من سراييفو، حافلة كلها نساء، كنَّ يتضاحكن ويمزحن، أصبت بالدهشة، بالطبع مرّت سنوات على الأمر ولكن كيف لهن أن يتصرفن على هذه الشاكلة؟ كلما اقتربنا من المكان كانت أصواتهن تخفت، فما إن وصلنا حتى كانت وجوههن وأحوالهن كأنها لأناس مختلفين، وكان ما كان من ساعات قاسية في حضرة بقايا الشهداء وقلوب الأمهات والزوجات والبنات الملتاعة.
لم تتعمد النساء حينها أن يتظاهرن بشيء، لقد تركن لمشاعرهن العنان دون تكلف، في أول الرحلة وفي آخرها، هل كانت النساء يدركن أن الجزع مذموم لأنه نقيض الصبر، وهو كما وصفه الجاحظ خُلُق مركب من الخرق والجبن، أو كما قال عنه ابن القيم ضعفٌ في النَّفس، وخوفٌ في القلب؟
هل كن يدركن ذلك، أم كن يدركن أن تعمد إظهار المشاعر، هو بمثابة متاجرة بها، كأنه نوع من النفاق، كأنه مساس بقيمة المفقود والفقد؟
(5)
الحزن حزنان، حزن نبيل مقدس يسكن الفؤاد ولا يبارحه، وأي سلوك تأتي به جوارحنا لا يهزمه ولا يشوش عليه، وهناك حزن عدواني يتمنى أن يدمرك ويقضي عليك، يريدك أن تقضي ما تبقى من حياتك تحت سلطانه، لا تتقدم خطوة إلى الأمام بحجة الوفاء للفقد، سواء كان شخصاً أم داراً أم حتى وطناً.
الفرح نوع من المقاومة ضد هذا الحزن العدواني الأخير، مقاومة تصده وتوقفه عند حده، وتقول له لا تغالِ، الزم مكانك.
البهجة صناعة يدوية، تصدر من داخلك، لا تنتظر أن تهبط عليك من السماء، وهي لا تمس الحزن النبيل القابع في داخلك، بالعكس هي تحترمه تماماً، وتعرف قدسيته، وتحافظ عليها.
في العيد مثلاً يغيظ المعتقلون والأسرى مضطهديهم بالفرح، يرسمون على وجوههم الابتسامة، وكأنهم يبلغونهم بأنهم لم ينالوا منهم، وأنهم ماضون على ما هم عليه، وأنهم سيهزمونهم كما هزموا الحزن.
في العيد مثلاً لا يسلم اللاجئون أنفسهم إلى الذكريات التي تسلمهم بدورها كأسرى حرب إلى الحزن العدواني، هم يؤمنون وهم في خيامهم بأن لا حال يدوم، يتطلعون إلى الأمام، يزينون خيامهم بقصاصات من ورق وأقمشة، وما يقع تحت أياديهم، بعض المعاني العظيمة تحملها أشياء صغيرة قد تبدو للآخرين تافهة.
في العيد يقاوم المكلوم حزنه العدواني بالفرح، صحيح أن الجرح غائر، والفقد عظيم، لكننا مأمورون بالفرح.