علامة استفهام 29: هل نحن أيضًا طغاة؟
(1)
يمرُّ بنا الحدث فيهزُّنا هزًّا، يُسقط بعض أوراق التوت عنا لنكتشف أنفسنا من جديد، يوجه قائد مقاومة ما اعتُبر تحية لبشار الأسد، فيوجه له البعض بدورهم نقدًا، كيف تحارب طغاة هنا وتحيي طاغية هناك؟! فيثور آخرون، كيف لكم أن توجهوا سهامكم لمن يضع رُوحه على كفِّه؟!
(2)
نهاجم الحاكم بضراوة مُتَسَلِّحين بشعار حرية التعبير، لكننا نرفض في ذات اللحظة أن يوجه واحد منَّا نقدًا – حتى وإن كان لطيفًا – لقائده؛ زعيمه في الحزب أو الحركة أو الجماعة، نعتبر ذلك مساسًا بشخصه الفاضل، وبتاريخه النضالي، وكأن النقد سباب، وليس تقييمًا وتصويبًا.
هل نحن نوظف شعار حرية التعبير في معاركنا مع الحاكم، وفي الحقيقة لا نؤمن به؟ هل “نقاء” قائدنا الذي نؤمن به يمنعنا من توجيه النقد إليه؟ هل معاناة وصمود القائد في سجون الطغاة، أو نضاله البطولي ضد الكيان الصهيوني – مثلًا – يمنحه حصانة من توجيه النقد له؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا كُنَّا نُردِّد دائمًا وبفخر المقولة المنسوبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إن أخطأت فقوِّموني بسيوفكم”؟!
الله عز وجل عاتب النبي صلوات الله عليه عتابًا علنيًّا، نتلوه ونتعبَّد به في القرآن الكريم.
الرافضون لذلك يعتقدون أن الوقت غير مناسب، تمامًا كما يعتبر الحاكم الطاغية أنَّ البلاد تمرُّ بظروف حرجة، وأنَّها مستهدفة، وأنَّ ذلك يُحَتِّم على الشعب أن يصمت حتى لا يستغلَّ الأعداءُ الفرصة، هو هو نفس المنطق.
الناس في السجن لا يجب توجيه النقد لقائدهم، الناس خرجوا من السجن لكن باتوا في الحكم ويتآمر عليهم الجميع، ولا يجب أن تساعد خصومهم بنقدك لهم، اصمت، الناس دخلوا السجن مرة أخرى ويعانون صنوفًا من التعذيب، اصمت.
هناك خلط شديد بين النقد الشخصي ونقد السلوك السياسي الذي تنتج عنه نتائج وخيمة، النقد ليش تشكيكًا بأخلاق القائد، ولكن بسلوكه، وربَّما بواحدة من قراراته، والفارق عظيم.
يعتقد المؤمنون بحرية التعبير ضد الحاكم الرافضون لحرية التعبير ضد القائد أنَّ النقد يُثير الفتنة، نفس ما يزعمه إعلام السلطة، إعلام الطغاة، يبتعد عن المسائل والقضايا الحسَّاسة، يصرف الجهود إلى قضايا فرعيَّة، ورسالته دائمًا: إثارة الأسئلة والبحث عن إجابات سيدفع بالبلد إلى الهاوية. السؤال يثير الفتنة؟!
لا.. الفتنة كلها في الصمت، وفي ذهن كل واحد منا ألف سؤال، النقاش والإجابات هي التي تنقذنا، الشفافية تنجينا، الحوارات تزيل الشكوك وتقضي عليها.
لا يجب أبدًا أن نتوقف عن توجيه الأسئلة للقائد، لماذا فعلت؟ ولماذا فعلت؟ التابعون يدفعون الثمن أيضًا وليس القائد فقط، القائد شخص يصيب ويخطئ، حقيقة بسيطة.
الاستشهاد على طريقة “إذا بلغك عن أخيك شيء فالْتَمِس له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا، فَقُل: له عذر”، في غير محلها تمامًا، نحن لا نتحدث عن علاقة بين شخصين، نحن نتكلم عن حركة وقرارات سياسية وثمن سوف يدفعه التابعون.
يقولون كيف تنتقد الضحية؟
يا سادة، وعلى سبيل المثال: نحن نتضامن مع المسروق ضد السارق، لكننا ننتقد المسروق لإهماله في حفظه حاجاته.
يا سادة، وأنتم تحملون قيمكم العليا لا تكونوا مثل الطغاة.
(3)
إذا كنت قائدًا، وفي لحظةٍ ما بِتَّ عند مفترق طرق، وعليك اتِّخاذ قرار إمَّا تميل إلى مبادئك الأساسية فتخسر الحركةُ التي تقودها وتتزعمها خسارةً فادحة قد تفنيها، أو تقدم تنازلات أساسية وتستمر حركتك، فأيَّ طريق تختار؟!
سألت هذا السؤال على مواقع التواصل، وكانت معظم الإجابات مُناوِرة، والحقيقة أن مفترق الطرق الذي تحدَّثت عنه وعَنِيته لا يحتمل أي مناورة ولا دهاء سياسي، ولو كان هناك هذا الاحتمال ما كنتُ سألت هذا السؤال، إما هذا وإما ذاك، إما المبادئ وإما المصالح، فماذا تفعل؟
(4)
لا أدعي أنني على صواب وغيري على خطأ، لكن ما سأقوله هنا هو ما أومن به ويبدو لي واضحًا وجليًّا تمامًا.
نعم يستطيع القائد تقديم تنازلات، بل عليه ذلك لحماية حركته بقيمها ومثلها العليا، لكن عند حدٍّ مُعَيَّن عليه ألَّا يفعل حتى ولو أدَّى ذلك إلى فناء حركته؛ لأنَّ الفكرة ببساطة لا تموت، لكن بتقديمه تنازلات رئيسية تموت.
الحنكة السياسية هي في المناورة وتقديم التنازلات المحدودة، وليست في التنازلات الرئيسية، فعندما توافق حركة على التطبيع مع الكيان، فقد تجاوزت كل الخطوط الحمر، وتساوت مع الآخرين، أنت تدّعي أن هذا لمصلحة حركتك، وهم يتنازلون أيضا بدعوى مصلحة البلد.
ارفُضْ ولو كان الثمن حلَّ حزبك أو حركتك، إن كنت تدعي فعلًا أنك صاحب فكرة، التنازل الذي يتعدى الخط الأحمر هو وأد للفكرة، حُلَّ حزبك، تبقى الفكرة حية وإن كانت تحت التراب، إلى أن يأذن الله لها بالبعث مرة أخرى.
لا منطق في اختصار الفكرة في الحركة، أي أن نعتبر أن الوطن أو الدين هو هذه الحركة، وبالتالي مطلوب حمايتها بأي ثمن، ولو بتقديم تنازلات رئيسية.
لا يا سيدي حركتك ليست هي الوطن، ولا الدين، قد تفنى حركتك، لكن الدين أو الوطن الذي تدافع عنه سيبقى.
ثَمَّة فارق يجب أن يبقى بيننا وبين الطغاة، لا يجب أن نُشْبِههم أبدًا، نعم للسياسة أدواتها، لكن إذا كنا صادقين، فنحن نتميز بمبادئنا، فإذا تنازلنا عنها تساوينا معهم.
هل نحن فعلًا نقاوم المستبد أم نريد استبداله؟