(1)
قبل أن أجيبك أسألك:
هل جربت أن تكون بذكائه، ذاك الصغير الذي تسخر منه؟
هل لديك فكرة عن أسلحته، تلك التي لا تصدأ أبدًا؟
هل سلكت سلوكه يوم أن وقعت في مأزق مثلما فعل هو لينجو من مأزقه؟
أفكرت أن تحذو حذوه في الدنيا، أم إنك تعتقد أنك عاقل لا تفعلها؟
(2)
لا أظن أن أحدًا منا قد فاته الفيلم الأمريكي الكوميدي “في البيت وحيدًا” أو “Home alone”، الذي أنتج عام 1990، وقد أصبح تقليدًا سنويًّا أن يعرض في أعياد نهاية العام.
استمتعنا في هذا الفيلم بمفارقات كوميدية لعائلة كبيرة نسيت صغيرها وانطلقت إلى رحلة في أعياد الميلاد، لتكتشف الأمر لاحقًا وهي على مسافة آلاف الأميال.
يستيقظ الطفل في بيته على هذه المفاجأة، ليقرر أن يتغلب وحده على ما جناه عليه الكبار.
شاهدت الفيلم مرارًا، واستمتعت به مثل الآخرين، لكن ثمة سؤال شغلني: هل فعلًا ما قام به هذا الطفل يمكن أن يقوم به أي طفل آخر بغض النظر عن التفاصيل المختلفة، وعن مبالغات المخرج التي يحتملها العمل السينمائي؟، هل هو سلوك معتاد لطفل؟
(3)
عندما يقع المرء في مأزق، فإن أمامه طريقين، إما البكاء على ما أصابه، والشكوى ليل نهار، ولعن الحظ، ولوم الأهل والأصدقاء والأقرباء والمجتمع المحيط، والتنصل من تحمل أي مسؤولية.
وإما أن يعزم على مواجهة الأمر.
وهذا ما فعله بطلنا الطفل!
قرر أن يواجه الموقف، أن يتحدى الواقع الذي تورَّط فيه، عزم على الخروج من مأزقه.
لك أن تستخدم كل مفردات “الإرادة”، فهي مفتاح كل الأبواب المغلقة، وعليك أن تعرف ما يعنيه ذلك:
أن تكون مستعدا للخروج من منطقة الراحة التي كنت تنعم بها.
أن تتهيأ لتغيير نمط حياتك.
حلمك هو زادك الذي يجعلك تتحمل كل هذه التضحيات.
طفلنا كان يحلم بالنجاة، بأن تعود العائلة يومًا لإنقاذه فتجده على خير، صمد في أزمته وعبر منها، أصبح الآن شخصًا آخر، أكثر نضجًا، مختلفًا عن أقرانه، واثقًا بنفسه، وبقدرته على عبور أزمات الحياة.
هل فكر الطفل حقًّا في هذا كله؟
ربما ليس على هذه الشاكلة، ربما ليس بهذه البلاغة، لكن فطرته “السليمة” سيَّرته بطريقة تلقائية، فنحن نخسر الكثير حين تفسد فطرتنا، أو يصيبها شيء من التلوث.
الفطرة ذاتها هي التي تدفعه إلى العناد، أن يحاول أمرًا فيفشل فيه، فلا ييئس، وإنما يحاول مرة، ومرة، ومرة، بصبر جميل، ومعنويات عالية.
(4)
صحيح أنه مجرد فيلم، وبوسع المخرج أن يصنع في فيلمه ما يشاء، لكنه ليس بعيدًا عن الواقع، وأسلحة الطفل لا تختلف، مهما تغيرت ظروفه.
الإرادة، والحلم، والعناد، والصبر.
سواء كان يبحث عن النجاة، أو عن قطعة من الحلوى، أو دراجة جديدة، أو نزهة في مكان ما.
راقبوا الأطفال، ستجدون أن هذه أسلحتهم، وأنهم رغم ضعفهم ينتصرون.
“وحيدا في المنزل”: ليس هو الفيلم الوحيد الذي يدور حول طفل، فهناك أفلام كثيرة كان الأطفال أبطالها مثل “إمبراطورية الشمس”، حيث فتى إنجليزي يحاول النجاة في ظل الاحتلال الياباني في الحرب العالمية الثانية، أو فيلم Wonder)) الذي أنتج عام 2017، عن طفل يبلغ الحادية عشر من عمره، ذي وجه مشوه وشجاعته في مواجهة الظروف، ومعاملات الناس من حوله، ويعتبر من أجمل أدوار الأطفال التي تعاطفنا معها جميعًا.
(5)
في حروب الدنيا نحتاج إلى روح الأطفال لنتغلب على ما نواجه، فليس من المهم أن نعبر الأزمة وحسب، ولكن أن نخرج منها أصحاء نفسيًّا، دون عاهات نفسية، ودون جراح عالقة، لذا نحن في حاجة إلى أرواح خفيفة، تحارب دون عبوس، تناضل في الدنيا بابتسامة، مؤمنة بأن ما يجري لنا إنما هو بمشيئة الله وبعلمه عز وجل، وأن لا نضجر من قدره، وأنه تعالى يراقبنا، ينظر وهو الأعلم، هل نحن راضون بقضائه، هل نحن مستسلمون لمشيئته، هل نحن متوكلون عليه، هل نحن واثقون من إجابته الدعاء بحسب ما يرى من خير لنا سبحانه.
(6)
ربما هو أمر مضحك، لكنه جميل ألا تحمل – مثل الأطفال – همَّ الرزق، فما عليك غير السعي.
مشهد الأطفال وهم يلعبون بسعادة معًا: أبيضهم، وأسمرهم، وأصفرهم، يعلمنا ألا نكون عنصريين، أن نقبل بالآخر، مهما كان لونه أو معتقده.
هم إذا غضبوا تصالحوا سريعًا، فلا تحمل الصدور هذا الغل الذي يتعذب به الكبار، ذات المشهد يعلمنا أن نكون اجتماعيين منفتحين على الآخرين ودون وجل.
هؤلاء الصغار يعلموننا: أن نستمتع باللحظة، أن نعيش الحياة، أن نتوق إلى المعرفة، فنسأل عن كل شيء ونتعلم كل شيء، أن نخوض المغامرات والتجارب دون الاستغراق في الحسابات والتعقيدات، ألا نحزن ونعتبرها نهاية الحياة عندما نسقط كما يسقطون من فوق شجرة، أو من مرتفع، بل يعتبرون “مصيبتهم” مدعاة إلى المرح، رغم ما لحق بهم من ألم، صحيح قد يبكون قليلًا، فمشاعر الحزن والألم طبيعية، لكنهم يعبرونها سريعًا، ويمضون في دربهم، فهم يعتبرون أن الندوب شارات شرف.
(7)
فلنصحُ مثل الأطفال، كل يوم نعتبره يومًا جديدًا، وقد نسينا ما وقع لنا أمس، نحلم من جديد، ونتحلى بالشجاعة، ونجرب أمورًا جديدة، ونعبر عن أنفسنا، ولا بأس أن نرمي هذا “الكبير المتغطرس”، المتحكم في عباد الله الظالم لهم بحجارتنا، فكثرة الحجارة توهنه وتسقطه، وتسعدنا!