علامة استفهام 5: هل بلغك سر العزلة؟
(1)
توطئة
لي جناحان أطير بهما ليل نهار، لا أترك بلداً إلا وأزوره، ولا قوماً إلا وأحدثهم، ولا جنساً من حيوان ولا طير إلا وأتعرف إليه، لقد منحتني “الخصوصية” سوراً أنصبه حولي وقتما شئت وأرفعه متى شئت، ممتنٌّ لهذا “الخيال” الذي يدعني أفعل ما أريد، بعد أن برهنت لي سنوات عمري الطويلة أن ما من متعة في الحياة كلها تعدل متعة “الحرية”.
(2)
الشريك
تتيه مني في الازدحام، في الحشود، في ثرثرة الأصدقاء، في أحاديث العمل، ثم أجدها في العزلة، فهل أحتمل الإنصات إليها؟ هل أطيق البقاء معها؟ هل أطيل البقاء معها؟ هل أكون صريحاً معها؟ هل أعرفها حق المعرفة؟ ثم هل هي على ذات الشاكلة التي تخرج للناس بها، أم إن حقيقتها تختلف؟
أبقى أتحدث إلى نفسي بالساعات، نتفق قليلاً، نختلف كثيراً، نصل إلى حلول وسط أحياناً، مجبر أخوك لا بطل. حنا أرندت تقول إن العيش مع الآخرين يبدأ من العيش مع أنفسنا، إذن لا بد من أن أجيد الحياة مع نفسي حتى أجيد الحياة مع الآخرين.
العيش مع النفس ليس وحدة، العزلة غير الوحدة، جان بول سارتر قال: “إذا شعرت بالوحدة وأنت وحدك فأنت في رفقة سوء”؛ ترى هل أصبت في فهمي لما قاله؟
(3)
الفكرة
في العزلة يزداد نشاط التفكير، يعمل العقل بأقصى طاقته، اللحظات التي كنت أختطفها وأنا محشور في سيارتي، أو في مناسبة عائلية، أو في اجتماعات العمل، أصبحت في العزلة ساعات، كل شيء الآن مهيأ للعقل حتى يحمل الفكرة، ثم يلدها على مهل. أفرح بها، أوليها عنايتي، أطعمها، تكبر، تصبح فتية ناضجة قوية، وتخرج إلى الحياة.
رالف والدو إمرسون نصح المعلمين الحكماء بأن ينصحوا بدورهم طلابهم بقضاء فترات في العزلة والمداومة عليها، لأن ذلك من شأنه -بحسب وجهة نظره- أن يجعل الفكرة التائهة الجادة قابلةً للتحقق.
وعلى كل حال؛ كلما كان العقل أكثر قوة وأصالة، زاد ميله لاعتناق دين العزلة، هذه المرة بحسب ألدوس هكسلي.
(4)
النبي
“ثم حُبِّب إليه الخلاء”، ويشرح الإمام النووي ما تحدثت بشأنه أم المؤمنين عائشة فيقول: “أما الخلاء فهو الخلوة، وهي شأن الصالحين وعباد الله العارفين، لقد حُبِّبَتْ إليه العزلة -صلى الله عليه وسلم- لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشع قلبه”.
وفي “الرحيق المختوم” أن اختيار المعصوم لهذه العزلة إنما هو من تدبير الله له، وليُعِدّه لما ينتظره من الأمر العظيم، ولا بد لأيّ روح -يُراد لها أن تؤثّر في واقع الحياة البشرية فتحوّلها وجهة أخرى- من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الناس الصغيرة.
(5)
خلوة
وأحياناً أكون في العزلة، أو هكذا أحاول، كالصوفي في خلوته، كأني فارٌّ إلى الله، كأني أتطهر من كل ذنوبي وحماقاتي، أحاول استعادة قلبي الذي غيبته الضوضاء وشوشت عليه، أبذل جهدي في أن أزيح عنه ما ران عليه، أتذكر ما قاله ابن قيِّم الجوزية: إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.
أنهمك في ذكر الله الذي هو ليس استحضاراً لغائب، كما قال محمد الغزالي، “إنما هو حضورك أنت من غيبة، وإفاقتك أنت من غفلة”، أضع أمام عينيَّ قول ابن عطاء الله السكندري: “ولا يزال الذاكر يوالي الذكر بلسانه، ويتكلف إحضار القلب معه، إذ القلب يحتاج إلى موافقته حتى يحضر مع الذكر، ولو تُرك وطبعه لاسترسل في أودية الأفكار، إلى أن يشارك القلبُ اللسانَ، ويحرق نورُ القلب الشهوات والشياطين”.
(6)
الذاكرة
وفي العزلة تُخرِج الذاكرة ما لديها، هكذا فجأة، كأن قفلاً كان يغلق بابها عنوة ثم انكسر، تتذكر كل الأيام الحلوة، وحتى تلك التي كنت تعتبرها عادية، كنت تحمد الله في المناسبات، اليوم نجحت، اليوم رزقت كذا، اليوم اعتليت في وظيفتي منصباً أعلى، وهكذا الحمد في المناسبات.
في العزلة تتذكر أصغر الأشياء التي كنت تمر بها ولا تعيرها اهتماماً ولا تعتبرها تستوجب أن تقف لتحمد الله عليها، قبضة ابنك الذي كنت تصرخ فيه وأنت تصحبه إلى المدرسة، نداء زوجتك وأنت تغادر البيت أن تشتري كذا وكذا، كوب الشاي الذي كنت تتبرم من حامله في المقهى آخر شارعك، شكوى صديقك وأنتما تسيران في وسط البلد.
الآن في العزلة سنتعلم حمد الله على النعم الصغيرة التي باتت الآن عندنا كبيرة، حتى كوب الماء، حتى استيقاظك معافىً، حتى حذاؤك الذي ترتديه كل صباح، حتى الشجرة التي أمام بيتك، حتى المسكين الذي يسألك لقمة عيش. لقد تأدبنا، لقد تأدبنا يا مولانا.
(7)
المقاومة
أحياناً تكون العزلة إجبارية، كتلك التي يفرضها عليك العدو، فيحاصر السويس، أو سراييفو، أو غزة، أو تعز، أو حلب أو غيرها، أو كحال الأسرى والمعتقلين، إنهم جميعاً معزولون عن العالم الخارجي، مدينة كاملة بملايينها، أو زنزانة بعشراتها، أو قبو يطبق على واحد بمفرده.
ترى كم من هؤلاء جُنَّ، أو انكسر، وكم منهم نجا، وكم منهم وُلد في هذه العزلة من جديد، كم من مبدع أخرجته هذه العزلة الإجبارية، وكم منهم انتهى؟ وي كأن الأمر ليس العزلة فحسب، ولكن كيف كان فعلك في العزلة، كيف تصرفت، كيف قلبت الطاولة، وجعلت البلاء سبباً في أن تخرج إلى الحياة من جديد، لتكون أنت كما كنت تريد أن تكون.
(8)
الحصاد
يدرك أي عاقل أن من المخلّ أن تمرّ العزلة دون إنجاز، أن ينحصر ما يتقنه في فعل الانتظار، ربما أبدأ غداً، أو بعد غد، أو الأسبوع المقبل، أو خلال ثلاثة أسابيع، بحسب ما يعد به أصحاب العلم الذين لا يعلمون، وفي غضون ذلك ينقضي شطر من حياتك دون أي جدوى، دون أي فائدة.
يقول نيتشه في “هكذا تكلم زرادشت”: “إن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشدد عزائمها”. أو كما قال توماس مان في “موت في فينيسيا”: “تتيح العزلة المجال للأصالة أن تولد فينا، للجمال غير المألوف والمحفوف بالمخاطر، للشعر”.
(9)
الختام
بعد أن تنتهي العزلة -بإذن من الله- سأكمل الترحال، سوف أطلق جناحي مرة أخرى وأطير ليل نهار، لا أترك بلداً إلا وأزوره، ولا قوماً إلا وأحدثهم، ولا جنساً من حيوان ولا طير إلا وأتعرف إليه، غير أن ذلك لا يتأتى إلا لشخص أنضجته نار العزلة.