(1)
تجتمع العائلة مساءً في العطلة الأسبوعية، نبحث عن فيلم مناسب للمشاهدة العائلية، فيقترح الصغار -بميولهم “الخوجاتية”- أسماء أفلام لا تروق لي، أمارس الديمقراطية -على الطريقة العربية- فأفرض فيلمًا بذاته.
المشكلة ليست هنا؛ المشكلة أنني أقترح فيلمًا عن الحرب!
بسيف الحياء يرضخ الجميع.
ننتهي منه وأعصابنا قد توترت بما فيه الكفاية.
لكن حقًّا.. هل أحب الحرب؟
(2)
لا أعرف سبب شغفي بمتابعة كل نتاج أدبي أو سينمائي للحروب؛ الروايات التي توثِّق لها، الأفلام الدرامية التي تفعل الفعل ذاته، أي شهادات أو مذكرات مكتوبة أو مسموعة، هذا رغم تجاربي السيئة في التغطيات الصحفية، التي كنتُ أعود كل مرة منها مصممًا أنها آخر مرة أذهب إلى منطقة حرب.
لم أتوقَّف عن ذلك، حتى بعد أن توقَّفتُ عن السفر إلى مناطق الحرب.
قرأت للروائي (أمير تاج السر) أن “الحروب من أهم مواد الكتابة التاريخية، ولن نسأل: لماذا الحروب بالذات؟ فالأمر يبدو واضحًا: الحرب تقدِّم موادًا مشبعة للكتابة برغم ما تسببه من ضرر، كل المآسي الممكنة تحدث في الحرب، ومن جراء الحرب: الجوع، الفقر، التشرد، الاستغلال المادي والجنسي، الموت المباغت للأحباب، وكل ما هو مزعج وحقير”.
لكني أضيف -وقد لا يوافقني- أن الحرب مادة ثرية لفضائل أخرى، منها -ربما- الحب والرومانسية!
الذي يستطيع أن يحب وهو في حرب، الذي يستطيع أن يكون رومانسيًّا رغم شلالات الدم، هذا معناه أنه نجا، أقصد نجت إنسانيته، لم يتحول إلى وحش، أو كيان مشوَّه كما يقع لناس أحيانًا.
الحرب هي اختبار عسير للمرء، أجبر على المرور به.
كثيرون يرسبون بدرجات مختلفة، وكثر -أيضًا- ينجحون بدرجات مختلفة.
الحروب تكشف معدن الإنسان الحقيقي: الخبيث، المخلص، الكريم، المضحي..
في الحرب… نعم قد نموت أو نصاب، أو نفقد عزيزًا، لكننا نكتشف أنفسنا وقدراتنا.
والصحفي الماهر هو مَن ينجح في اكتشاف هذه الحالات، الفردية أو الجماعية، إنه -وسط كل هذه الأشلاء وتتابع الأخبار ومتطلبات العمل- يفعل فعل صائدي اللؤلؤ، والمنقِّبين عن الذهب، وربما هذا هو سببٌ رئيسٌ من الأسباب التي دفعتني للانتقال من عالم الأخبار إلى عالم الأفلام الوثائقية، مِن عَالَمٍ يبحث عن خبر سريع، إلى عالَمٍ يبحث في دواخل النفس الإنسانية، عن حكاياتها التي غطَّت عليها أخبار القتلى والجرحى وتصريحات القيادات.
(3)
إليك الحكاية التي سردتها كثيرًا!
كنتُ أتردد على سراييفو -كل ثلاثة شهور تقريبًا- في انتظار أن تندلع الحرب؛ فقد كنت أتوق لأن أكون شاهدًا عليها، رغم أنه لا خبرة عسكرية لي مطلقًا، ولم أشارك في الجندية.
وبالفعل بدأت الحرب عام 1992 وأنا هناك، لقد انهار كل شيء فجأة، كنت حينها مراسلاً لجريدة “المسلمون” السعودية، مراسلاً بالقطعة وليس موظفًا بها، وكان صاحب الفندق صربيًّا، قضيت ليلة من أسوأ الليالي، ووجدت نفسي فجأة بدون أي حماية، حوصِرت المدينة، وتوقَّفت الحياة وأُغلق المطار، ولا سبيل لعودتي لألمانيا حيث كنت أعيش.
توصلوا إلى تهدئة، وفُتح المطار، وسافرت إلى شتوتجارت الألمانية، وسقطتُ في مطارها من الإعياء، وعاهدت نفسي ألا أعود؛ فقد رأيت الموت بعيني.
ثم جاء خبر صغير في جريدة ألمانية، أن رجلاً كان يسير في أحد شوارع فرانكفورت -عاصمة أوروبا الاقتصادية- فسقطت عليه كتلة من الجليد الذائب من أعلى البناية التي يمر بها، فمات في الحال، وقررت أنا العودة إلى سراييفو في الحال.
لا يمكن أن تهرب من الموت أبدًا، حينما يحين الموعد يصلك أينما كنت.
لكنَّ خطر الحرب لا ينحصر في الموت أو الإصابة؛ فقد تخرج من الحرب سليم الجسد، عليل الروح.
أن تشاهد عذابات الناس -وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئًا- هذا نوع من العذاب لا يوصف.
أيُّ عزاء يمكن أن تقدِّمه لمسن اسودَّ وجهه من الجليد الذي ظل فيه وهو في العراء وحيدًا محاصرًا؟!
أيُّ عزاء يمكن أن تقدِّمه لزوج اغتُصبت امرأته أمام عينيه؟! لقد رفضت الحرة أن تتناول أي طعام حتى تُوفيت في المستشفى.
أيُّ عزاء يمكن أن تقدِّمه لأم عجوز يعرضون عليها رفات مَن وجدوهم لعلها تستدل على ابنها أو زوجها؟!
كل مشهد، كل صورة، كل موقف، يترك في قلبك ندبة، لا تمحها الأيام، بدليل أني رغم أني كثير النسيان لكنَّ الأحداث مرسومة أمامي.. ما زلت أتذكر.
إذن فلماذا نذهب إلى الحرب، كتَّابًا وصحفيين وفنانين أحيانًا؟
(4)
العائد المادي؟
وما جدواه إذا متنا أو أصابتنا شظية فبتنا مقعدين -مثلاً؟
ماذا يمكن للمرء أن يفعل بالمال والشهرة إذا خسر حياته، أو حتى خسر عضوًا من جسده، فقد بصره، أو قدميه، بات عاجزًا، ماذا يفعل المال له في هذه الحالة؟
لا أظن أن هناك إجابة واحدة يُجيب بها كل مَن يذهب إلى الحرب باختياره، صحفيًّا، أو غيره.
أنت في الحرب تفعل ما لا يفعله الآخرون، من زملاء أصحاب مهنة البحث عن المتاعب، أنت تبحث عن شيء مختلف، عن أمر ثمين، عن مسألة صعبة، عن حاجة غير مألوفة، عن أمر يستحق العناء والمخاطرة.
في الحرب ستكشف الوجه الحقيقي للقادة الذين ورَّطوا الناس فيها، وستكشف المعاناة الحقيقية للناس البسطاء، التي تتخطاها بعض وسائل الإعلام في أرقام.
في الحرب أنت مراسل المظلومين والضحايا الذين لا حول لهم ولا قوة.
المسألة ليست مهنية فقط.
فهناك -في الحرب- ستتذكر أن كل نفس ذائقة الموت، لكن ليس كل نفس ذائقة الحياة، وأنك كنت تُجرم في حق نفسك؛ عندما كنتَ تعيش دون أن تكترث لقيمتها، دون أن تتذوق الحياة.
في الحرب سوف تنحاز -أو هكذا يجب أن تكون- لمن لم يختاروها ويدفعون ثمنها.
في الحرب ما يستحق أن نبحث عنه رغم قسوتها وآلامها، ولذلك فإنه برأيي أنَّ على كل صحفي أن يذهب للحرب ولو لمرة واحدة في حياته، سيخرج من هناك بألف درس ودرس، دروس لمهنته؛ سيُحسن اختيار قضاياه وموضوعاته، وسيخرج -أيضًا- بدروس لحياته الخاصة؛ سيعرف قيمة الحياة، وسيتوقف امتعاضه وشكواه من أتفه الأمور التي اعتاد أن يشكو منها.
(5)
عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، وهرع الزملاء والزميلات من مؤسسات إعلامية عربية للذهاب هناك، عادت بي الذكريات إلى سنوات مضت، لكن سألت نفسي سؤالاً: هل حربهم أصعب أم حربنا؟
لم يكن لدينا هذه التقنيات الحديثة، معدات تصوير ثقيلة للغاية، جهاز (ستاليت) صعب الحمل وصعب التشغيل، مراكز محدودة جدًّا نستطيع منها إرسال تقاريرنا.
لا يعاني الزميلات والزملاء الآن من هذه المشاكل، لكن في الحقيقة يعانون أمورًا أخرى؛ فهذه التقنية الحديثة جعلت باب المنافسة شديدًا جدًّا، بوسع أي أحد أن يرسل رسائله المصورة والمكتوبة، وازداد عدد المراسلين، وعدد المؤسسات والقنوات، ورغم أن ظاهره جيد، لكنه يصعِّب المنافسة جدًّا.
سهل أن تحتل مكانك في منطقة فارغة، صعب أن تفعل ذلك في منطقة مكتظة.
غير أن الجيل القديم والجيل الجديد يقفان على نفس المسافة من خطر الموت والإصابة.
(6)
أول حرب عشتها في حياتي كانت في السويس إثر هزيمة يونيو حزيران 1967م.
عشت الحرب والهجرة، ورغم قسوتهما، فلا يمكن مقارنتهما بالوحشية التي تجري الآن، وكأنها كانت اختبارًا بسيطًا أو تهيئة لي لما بعد ذلك.
يظن البعض أن حرب البوسنة بسنواتها كانت الأصعب لي، لكن أتذكر الشيشان التي ذهبتُ إليها للتغطية ولم أعش بها كل هذه الفترة التي عشتها في البوسنة، إلا أنها كانت الأصعب، الطائرات الروسية تدكُّ البنايات دكًّا -كما فعلت في سوريا- ليس هناك أي احتمال لأن تخرج حيًّا إذا استُهدف مبناك، وإذا حدث وخرجت حيًّا مصابًا فليس هناك -تقريبًا- أي مراكز للعلاج سوى بيت هنا أو هناك بإمكانيات فردية.
لكن الكونغو -بصراحة- الأصعب؛ الأفارقة -وأنا منهم- شرسون جدًّا في حروبهم الأهلية، ورواندا خير شاهد، وغيرها، وغيرها.
الغريب عندي أن هذه الذكريات لم تدفعني للاهتمام بأدب الحرب، كما فعلتْ رواية فتيان الزنك، أو كأن الرواية نكأت جرحًا كان قد التأم.
فقد وقعتْ في يدي هذه الرواية، وهي للكاتبة والصحفية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، وهي تجمع -في رأيي- بين أمرين أحبهما: الرواية، والعمل التوثيقي؛ فالكاتبة توثِّق رواية الشهود الأحياء لما حدث خلال الحرب السوفياتية في أفغانستان ما بين 1979 و1989، والندوب التي تركتها في أرواح الجنود وعائلاتهم.
لقد فتحت شهيتي لمتابعة وتوثيق بعض حروبنا وهي -للأسف- كثيرة.
(7)
هل أخبركم سرًّا؟
أشعر أحيانًا أن الحياة في “السلام” أصعب من الحياة في “الحرب”.
في السلام قضايانا تافهة، لا نقدِّر الحياة، ولا نتعامل معها باحترام.
في الحرب -رغم قسوتها- نكتشف الحياة، ونتعلق بها، ونعِد أنفسنا بأن نُخلص لها، إذا ما خرجنا سالمين.
نعم.. الحياة في “السلام” أصعب!