علامة استفهام 7: عند العتمة..ما العمل؟
(1)
وددت لو سمعت نصيحتي، عندما تنصت لحكاية من أحدهم تقمّصْ شخصية أحد أبطالها، تنتقل على الفور من مقعد المتلقي إلى قلب الحكاية، تعيشها وتفهمها وتخلص إلى دروسها.
(2)
بدأ الحفر من اتجاهين متضادين، على أمل أن يلتقيا في نقطة ما بالقرب من المنتصف فيكون النفق، كانت مسألة حياة أو موت، سكان العاصمة محاصرون تماماً، لا كهرباء ولا ماء ولا تدفئة ولا غذاء، النفق سيكون لهم شريان الحياة، من دونه يبقى أمر سقوط العاصمة مسألة زمن.
تولى الأمر أكفأ المهندسين الذين تضمهم المدينة، لكنهم محرومون من أدوات الحفر التقليدية الملائمة لهذا النوع من الأعمال، محرومون من مواد البناء، أما العمال فهم من المتطوعين الذين انضموا للجيش الوليد، ينخر الجوع بطونهم، ويحملون على ظهورهم أحزانهم، وتتقطع قلوبهم خوفاً على أقربائهم وأعزائهم، ويتحاشون -قدر استطاعتهم- رصاصات القناصة وقذائف العدو.
مجموعة انطلقت من جهة دوبرينيا آخر نقطة في سراييفو، ومجموعة من جهة بوتمير آخر نقطة متصلة بالمناطق الحرة بوسط البوسنة، العمل يستمر تحت الأرض نحو ستة شهور، الأمر يتطلب صبراً لا حدود له، هو بالفعل أشبه بأنك تحفر الأرض بإبرة.
أثناء الحفر سقط منهم شهيد، هو الجندي مجيد عارفيتش، الذي كان يأمل الوصول إلى منزله في بوتمير ليلتقي زوجته وطفله الذي وُلد خلال الحرب ولم يَرَه.
عد شهور من الحفر؛ بدأ عمال كل جهة يسمعون طرقات المجموعة الأخرى، لكن المشكلة أنهم يسمعونها وكأنها تأتي من الجانب وليس من المقابل، مما يوحي بأن المجموعتين تحفران في اتجاهين متوازيين، ويعني ذلك أنهما لن تلتقيا، ومن ثم فشل المشروع برمته، فليس بوسع أي مجموعة أن تحفر لمسافة ثمانمئة متر نفقاً ارتفاعه متر وستون سنتيمتراً وعرضه متر وعشرون سنتيمتراً، لانعدام الأوكسجين على هذا العمق تحت سطح الأرض.
دَبَّ اليأس في قلوب العمال؛ فالأمل يتضاءل في تحقيق الهدف، ولا يبدو أنهم سيرون ضوءاً في نهاية النفق، فهل يستمرون في الحفر؟ بالكاد أقنعهم رئيسهم بالاستمرار.
كان من عادة العمال في الأيام الأخيرة غرس ماسورة طويلة في الواجهة التي يحفرون فيها، لعلها تنفذ إلى الاتجاه الآخر فيدل ذلك على أن الهدف قد أوشك على التحقق، وحدث في يوم مرهق أن وضع أحدهم يده على هذه الماسورة بالصدفة، فشعر بأن هناك من يطرق عليها من الجهة الأخرى.
في لحظات؛ انقلبت مشاعر اليأس والحزن والتعب إلى عكسها تماماً، وانطلق الجميع يحفرون -بهمة ونشاط غير مسبوقين- بعد أن أيقنوا أنهم قاب قوسين من تحقيق هدفهم، وبالفعل أحدثوا فتحة حول الماسورة، وهجم اثنا عشر شخصاً على هذه الفتحة الصغيرة، كل منهم يريد أن يتحدث إلى الآخرين في الجهة المقابلة، وعلا صراخهم فرحاً على الناحيتين.
وخلال ساعة أخرى؛ كان النفق قد امتلأ بالناس الذين دخلوه من الجهتين، عناق وصخب إلى أن قامت القوات البوسنية بتنظيم عملية المرور بعد أن أكملت الحفر، وسوّت الطريق، وأزاحت المياه الجوفية، ليكتمل حفر النفق الذي اجتازه أكثر من ثلاثمئة ألف شخص طوال فترة الحرب، وكان بالفعل شريان الحياة لهذه المدينة المحاصرة، وربما سبب نجاتها
(3)
عملاً بالوصية السابقة بأن أكون بطل الحكاية التي أسمعها؛ كنت أحد الذين حفروا، تخيلت نفسي في هذه الظلمة تحت الأرض، لا أستطيع الاستمرار في الحفر أكثر من عشر دقائق لنقص الأوكسجين، فأستريح ويأتي آخر، ثم أعود وهكذا.
تخيلت مشاعري وأنا أتوقع انهياراً في الأرض التي أحفر تحتها في أي لحظة، أو أن أهمّ بالخروج من موقع الحرب بعد انتهاء وقت عملي فتصيبني قذيفة أو رصاصة، لكنني أستمر في الحفر، تمر الأيام والأسابيع وأنا أحفر وما من دلالة مؤكدة على أننا في الاتجاه الصحيح، أو أن المشروع سيكتب له النجاح، ولطالما ترددت أنا وزملائي في أن نستمر، كان موقفاً مهيباً ووقتاً صعباً، أنت لا تعرف أيَّ قرار يجب أن تتخذه، لكننا قررنا أن نتحلى بالصبر ونواصل العمل.
(4)
يحب الناس أن يمتدحوا الصبر، ويدّعون أنهم يتحلون به، لكن بعضهم يخلط أحياناً حين يعتقد أن الصبر هو مجرد الانتظار، أن تنتظر ريثما تتغير الأحوال، وأنا لا أراه كذلك، وإلا لادّعى المسجونون مثلاً الصبر على بليتهم إلى حين خروجهم من سجنهم، والحقيقة أنهم كانوا مجبَرين على الانتظار نتيجة الأحكام الصادرة في حقهم، والأمر يعتمد على مشاعرهم وسلوكهم وهم ينتظرون.
الشكّاء المتذمر ليس بصابر، ذاك المستاء والغاضب على الدوام ليس بصابر، الصبر يبدأ عند الرضا، يبدأ عند تقبل الواقع وتفهمه والتأقلم معه، ثم العمل على تغييره دون كلل أو ملل، الصبر هو العمل وسط ظروف صعبة وبائسة أحياناً بنفس راضية موقنة بما هو آتٍ.
(5)
في الحقيقة؛ فإن الصبر ليس سهلاً لكنه في الوقت ذاته ليس مستحيلاً، والحقيقة أيضاً أننا في حاجة لتدريب أنفسنا عليه، تماماً مثل أي أمر آخر نتدرب عليه.
ربما خوفنا الأكبر من الصبر هو الفشل، هو أن نصبر ونصبر ثم تكون النتيجة أن نفشل، هذا أكبر تحدٍّ لنا، ونتجاهل حقيقة أن النتيجة المرجوة قد تأتي ولكن بترتيب يختلف عن الذي وضعناه مسبقاً في تصوراتنا، أو أن ما فقدناه في صبرنا كان ربما سيؤذينا إن حصلنا عليه، وأن ما سنكسبه ربما يعوضنا عما خسرناه.
علينا أحياناً أن نعزّي أنفسنا مقدماً لنكون جاهزين لأي نتيجة، ثم إن الحقيقة المؤكدة هي أننا لا نعلم، لا نعلم ما نتيجة أن نصبر، وما نتيجة ألا نصبر، على الأقل عند الصبر نقول فعلنا ما في وسعنا.
كبرى مصائب الصبر أن يمضي المرء فيه وقتاً، ثم فجأة يقول: لقد نفد صبري! فيتوقف ويلتف ويعود إلى الوراء، وربما فعل ذلك وهو قبل النصر بساعة، لذا أحياناً يكون كل ما علينا هو أن نغمض عيوننا ونمضي، ونستمر.
(6)
نحن الآن أبطال الحكاية الحقيقيون، نحن من سنحكي لمن بعدنا عما وقع لنا، أولادنا، أحفادنا، نريد أن نقص عليهم أننا تحلينا بالصبر حتى آخر لحظة، نضعف أحياناً، ونخاف أخرى، لكننا تمسكنا بالصبر، الصبر الذي ليس هو الانتظار فحسب، ولكنه العمل كطريق وحيد للخروج من العتمة.