عن السر الذي خبأته عنا الحياة
(1)
لا داعي لأن تكمل قراءة كلامي حتى نهايته إذا كنت تبحث عن حل سحري، لكن فقط انتبه من فضلك إلى الفقرة التالية، ثم بوسعك حينئذٍ أن تتوقف عن القراءة ولا تضيع وقتك. نعم أعرف أنك فقدت صديقاً في الثورة، وأن أصدقاءك الآخرين إما معتقلون وإما لاجئون، وربما أنت الآن هائم على وجهك في شوارع وأزقة أوروبا، أو ربما تبحث عن مركب تخاطر فيه بحياتك لتصل إلى حافة مدينة تقبلك كإنسان، فقط كإنسان. نعم.. نعم أعرف أنك محطم تماماً، وأنك تعتقد أن مستقبلك كله انتهى، بعد أن فقدت ماضيك، بصراحة شديدة لو كنت مكانك لكنت مثلك تماماً.
(2)
فلنعترف بداية بأن آباءنا وأمهاتنا أنجبونا وأرضعونا، وكبرونا، وألحقونا بالمدارس والجامعات، وأنهم فعلوا من أجلنا كل شيء بمقدورهم أن يفعلوه، باستثناء أمر واحد؛ أنهم لم يشرحوا لنا سر هذه الدنيا قطّ، وما الحكمة من الحياة، لماذا نعيش ولماذا نموت، ولماذا علينا أن نتحمل كل ما نتحمل.
إذاً فلتكن تلك هي مهمتك الآن، أن تفهم سر الحياة.
سأخبرك أنا، وأرجوك أن تخبر كل الناس.
في الحقيقة لك عندي خبران: أحدهما جيد، والآخر سيئ، فأما الجيد فهو أن كل ما تمر به الآن سينتهي، وأنك ستخرج من عثرتك، هذه سُنة الحياة التي لا تتغير، لا شيء يدوم أبداً، وأما الخبر السيئ فهو أنك بعد فترة ستواجه عثرة جديدة ومشكلة أخرى، لكن أعدك بأنها ستكون مختلفة عما سبقها، وهكذا إلى أن ينتهي عمرك.
نعم، الحياة ليست إلا مجموعة من العثرات، تخرج من واحدة، تلتقط أنفاسك، تهدأ، ثم لا تلبث أن تواجه عثرة أخرى، تختلف العثرات وشدتها ومواقيتها باختلاف الناس، لكن البشر يشتركون كلهم في هذا الأمر.
الحياة يا صاحبي ليست البتة مكاناً مناسباً لتسكن فيه وتستريح، الحياة ليست مكاناً للاستقرار، أنت يا عزيزي ومهما كان معتقدك لست إلا في رحلة طويلة تنتهي بما يتفق عليه كل البشر، ألا وهو الموت.
في هذه الرحلة ستمر بمسرات بلا شك، تتمتع فيها بمباهج الحياة، تتنفس بعمق، تضحك ملء شدقيك، تجني ثمار نجاحاتك، حتى تظن أنك وصلت إلى المستقر، لكن سرعان ما توجه لك الحياة لطمةً جديدة، قد تسقط، ثم تنهض، ثم تواصل وهكذا.
تستطيع أن تتوقف هنا عن القراءة إن لم يعجبك كلامي بأن الحياة ما هي إلا مجموعة من العثرات، لكن ربما يسرك أن تسمع إجابتي: إذا كانت هي كذلك حقاً، فما العمل؟
(3)
أي محاولة للاستسلام للواقع الذي تعيشه لا تعني أن هذا الواقع المؤلم سيبقى كما هو، بل سوف يزداد سوءاً، أنت الآن مخير بأن تغامر للخروج من هذه العثرة بأقل الخسائر أو أن تستسلم وتقبل بالأمر الواقع فتزيد خسائرك، وينحدر حالك أكثر وأكثر.
لا تعتقد أبداً، وصدقني في ذلك، أنك إذا قبلت بالخسارة وتعايشت معها، فإن ذلك سيستمر، لا، مطلقاً، الخسارة تزيد، الخسارة لا تتوقف أبداً إن أنت أعلنت الاستسلام.
يمكنك أن تشكو حالك لطوب الأرض، يمكنك أن تعلن تذمرك ليل نهار وفي كل مناسبة، لكن هذا لا يغير من أمرك شيئاً، ومرة أخرى ستزداد خسارتك، وستنحدر في عثرتك أكثر، الحقيقة لا أعرف كيف تفكر حين تعلن استسلامك، هل تقصد أن تبلغ طاغية بلادك بأنه انتصر عليك فعلاً، وأنه هزمك هزيمة لا تستطيع أن تقوم منها؟ هل تعلم مدى سعادته وزبانيته حين يعلمون أنك انتهيت؟ هل تعلم أن روح رفيقك الشهيد تتألم وأنت تعلن استسلامك مدعياً حزنك العميق؟ هل تعلم أنك خنته؟ نعم اسمع جيداً ما أقوله لك: أنت خنته، ليس عندما سقطت بل حين استسلمت، حين صممت أذنك عن روح رفيقك وهو يصيح لا تدعهم ينتصرون، لا تدعهم ينتصرون.
لا شأن لك بالسياسة، أنت مواطن طبيعي، إنسان عادي، لكن الظروف التي تمر بها بلادك هزمتك وأسقطتك، لقد ضاع مستقبلك ولا تعرف ماذا تفعل فآثرت السكون والبكاء، هل تعلم أنك بذلك إنما تمارس السياسة؟ ذلك عين السياسة، الصمت من أدوات السياسة، كل ما في الأمر أنك لست بقائد أو جندي، أنت مجرد أداة، أداة يفعل بها الآخرون ما يريدونه بصمتك، أنت بذلك إنما أردت أن تكون ريشة، مجرد ريشة، تحركها العواصف التي تمر بالمنطقة.
أنت لست بمؤمن على الإطلاق بأي دين؟ إذاً وقتك محدود، لن تعوضه في الآخرة، لأنها غير موجودة في نظرك فلماذا تستسلم، لماذا تفقد شيئاً لا تستطيع تعويضه؟
أعرف أنك ستقول مللنا الشعارات، وربما أدرت ظهرك لكلماتي ولم تكمل القراءة، بالتأكيد بوسعك ذلك إن لم يكن لديك الرغبة في أن تدرك أمراً لا يدركه كثيرون، وأريد أن أخبرك به.
(4)
قوة الداخل، لا تعرف كم أحب هذا التعبير، قوة ما بداخلك، وليس قوة ما بخارجك هي ما يجب اللجوء إليه، لكنك قد لا تحب ذلك ولا تريد الاعتراف به، فوجود الآخرين مهم لإلقاء اللوم عليهم وتحميلهم أسباب ما أنت فيه.
أنت في الداخل وحدك، أرني الآن ما هي قوتك، خذ هذا المثل، هل تتذكر حالك قبل رمضان، هل تتذكر صعوبة صيام يوم واحد، أو استحالة قيام ليلة واحدة؟ ثم يأتي الشهر الكريم وتُمضي ثلاثين يوماً على هذه الحالة، صياماً وقياماً، وبرغم تعبك فإنك في نهاية الشهر تشعر برضا كبير، وتدرك أنك كنت تمتلك القوة على صيام النافلة حين تحججت بأنه ليس بمقدورك.
الأمر نفسه ينطبق على أمور الدنيا، أنت تقدر، لكنك لا تريد، ربما مخافة التغيير وما يحمله من تبعات، ربما لأنك لا تثق بنفسك ولا تؤمن بها في حين تطلب من الآخرين أن يؤمنوا بك، ربما لأنك تخشى الهزيمة، ربما لأنك لا تعرف أن كل الذين نجحوا قد هُزموا ألف مرة من قبل، ربما لأنك تنتظر خروج المارد من المصباح ولا تريد أن تفهم أن المارد موجود فعلاً ولكن بداخلك وليس بداخل المصباح.
كثيرون منا لا يدركون قوة دواخلهم إلا عندما يكونون في موقف يواجهون فيه الموت فتخرج كل طاقاتهم الداخلية، يكتشفون كم كانوا أقوياء، يكتشفون ذلك متأخرين ربما.
خذ واحدة أخرى، عندما تهم بالعمل لا تشغل بالك بمراقبة شارة الإنجاز، كالذي يمارس الحمية الغذائية ويزن نفسه كل يوم ليقنع نفسه بجدواها.
حارب كأنك في قلب حريق تريد الفكاك منه، هل في خضم الحريق ستقف لتحسب الحسابات؟ كأنك تغرق، إذ تضرب البحر بكل قوتك ولا تترك نفسك ولو لحظة لتفكر هل سأنجح أم لا، ماذا حققت، هل أكمل؟ تعرف أنها أسئلة غبية في حينها.
كل يوم افعل شيئاً، شيئاً واحداً فقط، تقدم بخطوة، لن يتغير حالك بين يوم وليلة.
لا تفكر كثيراً وتغرق في التحليلات، الرشد أن تفكر، والرشد أحياناً ألا تفكر، امضِ فحسب.
ستخبت قوتك من حين لآخر، عد فذكرها بأن أحداً لا يأبه لك، ولن يمد أحد يد العون لك، وأنك وحدك المسؤول، وأن فشلاً أكبر في انتظارك وتدهوراً أسوأ إن أنت قبلت التوقف، لكن عليك أن تدرك مقتضيات المعركة.
أي معركة بالله عليك؟ لقد تركت ورائي كل المعارك.
قصدت معركتك أنت التي تخوضها كإنسان لتحيا كإنسان، هذه المعركة لها مقتضيات لا بد أن تدركها قبل خوضها.
(5)
ارسم خريطة لنفسك، حدد فيها بشجاعة وذكاء مواطن الضعف لديك ومواطن القوة، لا تقارن نفسك بالآخرين، نعم ما عندهم ليس عندك، ولكن ما عندك ليس عندهم، النقص سمة الحياة، ليس منا من هو كامل، فلا تشغل نفسك بهذه المعادلة، المهم أين نقاط قوتك وأين نقاط ضعفك.
عد إلى التاريخ وانظر كيف انتصرت جيوش صغيرة على جيوش أكبر منها عدداً وأكثر قوة وتسليحاً، هزموهم بالذكاء، بهذه الخريطة العظيمة التي أحدثك عنها، مواطن الضعف ومواطن القوة، كيف تستغل قوتك وكيف تقبل ضعفك وتتعامل معه.
ألا يزعجك أن تكون ذكياً بما يكفي ثم تُهزم وتوصم بالغباء، لأنك خضت معركة لم تدرها بشكل جيد، ولم تستغل فيها نقاط قوتك، وتدارِ عن خصمك نقاط ضعفك؟
(6)
وأخيراً، هل تعرف ماذا يعني أن تفوّض أمرك إلى الله، هل تدرك أهمية هذا الأمر العظيم، هل تعرف أنها ليست مجرد كلمات تتمتم بها، هل تتذكر ما فعلت حين وقعت في مشكلة ضخمة ثم لجأت إلى عزيز وجلست عنده منكسراً وأبلغته بأن حيلتك قد نفدت، وأنك تفوض إليه أن يتدخل ويساعدك؟ ولله المثل الأعلى، كن كذلك مع ربك، اجلس بينك وبين نفسك، كن صادقاً معها، احتسِ فنجاناً من القهوة على حسابي، وفكر في الأمر، فإذا عزمت فأبلغ ربك بقلبك قبل لسانك، وبتركيز شديد وبجدية وبوعي بمعنى الكلام وتبعاته، أبلغه عز وجل أنك فوضت إليه أمرك، وأنك تطلب منه سبحانه ألا يكلك لنفسك طرفة عين، وأن يكتب لك التوفيق في معركتك.
لكن احترس! لا تستطيع أن تفعل ذلك، ولا أن تجرؤ على رفع يدك إليه سبحانه وتعالى بقائمة طلباتك قبل أن تكون قد بدأت، على الأقل بدأت، في تأدية واجبك نحو نفسك، افعل شيئاً، أي شيء، وكأنك تقول لست متسولاً، أنا شخص كامل الأهلية وبوسعي أن أتحمل المسؤولية، فنصر الله لا يأتي للكسالى الشكّائين.
(7)
الآن انتهت كلماتي، تستطيع أن تتوقف عن القراءة، لكن من فضلك لا تتوقف عن المعركة.